بقلم - نبيل عبدالفتاح
مصر لا تمتلك من القدرات الاقتصادية أو التكنولوجية ما يؤهلها لأن تنافس القوى العالمية الفاعلة فى القارة الإفريقية، كالولايات المتحدة وأوروبا الغربية، والصين. نرجو أن تكون عقود الغفلة التاريخية النخبوية قد ولت، وآن الأوان لاستعادة الوعى التاريخى، والإرادة والمعرفة والحركة المدروسة. نحن نستطيع، وقادرون من خلال التخطيط الدقيق والخيال السياسى الخلاق، وانتقاء بعض الكفاءات من القلة القليلة من أولى العزم والقدرة واختيار بعض القضايا، والمقترحات التى يمكن أن نقدم فيها للقارة ونخبها ما يفيد وما يؤثر، وعلى نحو ملموس.
إن اختيار بعض الموضوعات المهمة التى يمكن لمصر أن تقدمها وتؤثر لابد أن تركز على النخب الوظيفية، أو الكفاءات العليا المؤثرة فى هياكل الدولة، وفى تشكيل النخب الإفريقية، وذلك من خلال توظيف الرأسمال الخبراتى التاريخى المصرى المتراكم منذ بناء الدولة الحديثة، وحتى اللحظة التاريخية الراهنة، وأحد أبرز معالم هذا الفائض الخبراتى التاريخى يتمثل فى المواريث القضائية، من حيث التشكيلات المؤسسية، وتكوين الجماعات القضائية، والمبادئ القانونية، وتجارب القضاة فى سعيهم نحو استقلالهم، واستقلال القضاء، وفى الذود عن الحقوق والحريات الفردية والعامة، وفى مجال الفصل والتمايز الوظيفى بين السلطات، وفى إرساء معالم دولة القانون فى ظل مختلف الظروف السياسية من حيث الصعوبة والحساسية، حتى فى ظل تطور النظام التسلطى. هذا الميراث التاريخى ندرَّ أن نجد له مثالًا خارج الأنظمة القضائية الكبرى فى عالمنا حتى عقد السبعينيات من القرن الماضى، إلا فى إطار النموذج الهندى الأنجلوساكسونى. شكل النموذج المصرى حالة خاصة، وذلك بسبب الدور البارز والتاريخى عملًا وريادة للجماعات القضائية المصرية، فى جنوب العالم.
لا أنسى عندما حضر إلى مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، وفد رفيع المستوى من جنوب إفريقيا، وأجتمع مع أستاذنا الجليل المرحوم السيديسين، ونبيل عبد الفتاح، ليسألنا عن التجربة القضائية الدستورية المصرية، وقد تولينا شرح تطور الخبرة التاريخية منذ أن تصدى القضاء العادى لهذه المهمة وتطورها من خلال مجلس الدولة، والمحكمة العليا، ثم إنشاء المحكمة الدستورية العليا، وتطورها القانونى، والأهم فى إرساء مجموعة المبادئ الدستورية الرفيعة المكانة والمقام التى بلورها قضاتها، ومعهم دور هيئة مفوضى المحكمة، والتقارير بالغة التميز فى عديد القضايا التى قدمت وأدت إلى بطلان عديد من القوانين الماسة بالحقوق والحريات السياسية كقانون مباشرة الحقوق السياسية، وكانت التقارير بمثابة مؤلفات بالغة التميز فى الفقه الدستورى المقارن أثرت المكتبة القانونية والدستورية المصرية والعربية. ويمكن لنا استثمار فائض الخبرة التاريخى القضائى، فى استكمال المنصة الإلكترونية بعمل ما يلى:
1- تشكيل فريق عمل من قضاة المحكمة لإعداد مؤلف مرجعى عن الأنظمة القضائية الدستورية الإفريقية المقارنة: الأطر والهياكل القانونية، والمبادئ القضائية سواء فى الأنظمة ذات المصادر اللاتينية أو الأنجلو- أمريكية أو غيرها.
2- الإعداد لإنشاء مركز الدراسات القضائية والدستورية الإفريقية المقارنة ومقره القاهرة، وذلك لإعداد الدراسات المقارنة حول النظم الدستورية والقضائية الإفريقية، وتتولى تدريب شباب القضاة ورجال النيابة العامة فى دول القارة. مركز مستقل يتبع المحكمة الدستورية العليا، ويتولى التدريس خلاله قضاتها، وكبار المختصين الأفارقة والأوروبيين والغربيين ..الخ،
3- مساهمة الدولة المصرية فى إطلاق منصة اليكترونية لمجلس الدولة حول أحكام ومبادئ القضاء الإدارى فى الدول التى تأخذ بتعدد النظام القضائى على النمط الفرنسى والبلجيكى، أو الدول التى تأخذ بوحدة النظام القضائى، والتركيز على الأحكام والمبادئ الإدارية. والإعداد لمؤتمر دولى أفريقى حول القضاء الإدارى وحماية الحريات الفردية والعامة فى عالم متغير.
إن قيادة مصر للاتحاد الإفريقى هى محضُ فرصة تاريخية، لكى نؤكد للأشقاء أننا جادون ولدينا القدرة فى حدود إمكاناتنا، ولدينا العزم والإرادة على العمل المشترك، وأن تحركنا فى مجال العمل القضائى مدروس، لأننا نملك الخبرات والكفاءات والمهارات، والإرادة، وأننا لسنا أعجوبتها ولا مومياها كما قال الجواهرى، وإنما قادرون فى هذا المجال وفى مجالات آخرى شريطة أن ندرس ما الذى نملكه وقادرون على تقديمه، ومن خلال من؟. لا نملك إلا تقدير الجهد الذى قدمته المحكمة الدستورية العليا رئيسها وقضاتها الأجلاء، والدعم الذى قدمته الدولة، والذى نأمل تقديمه لإنجاز المقترحات السابقة، لأننا يمكننا أن نفعل، ونحن قادرون شريطة المعرفة والوعى.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع