بقلم - نبيل عبدالفتاح
تمثل مشكلة العلاقة بين الأنا والآخر على المستويين الشخصى والجماعى واحدة من أكثر المشكلات السياسية حساسية وتوترا ونزاعاً فى المجتمعات المعاصرة، فى الدول الأكثر تطوراً والدول النامية، فى الأولى تحُل المشكلة على صعيد المواطنة والحريات الشخصية، والجماعية انطلاقا من الحقوق الدستورية والمساواة والحرية المدنية ومنظومة حقوق المواطنة، ومن ثم عدم التمييز بين المواطنين على أى معيار مائز فيما بين المواطنين بعضهم بعضا، واعتمادا على رسوخ التقاليد السياسية والحقوقية فى هذه البلدان. من حق المواطن الذى تنتهك حقوقه أن يلجأ إلى القضاء المختص والمستقل كى يذود عن حقه المنتهك، ويحصل عليه. مع ذلك لا تخلو عديد الدول الأكثر تطورا من توترات فردية/ جماعية بين الأنا والآخر لأسباب تتصل بنزاعات الهوية الفردية/ الجماعية لبعض الأقليات الإسلامية، وبين هويات الأغلبيات فى فرنسا، وبلجيكا وألمانيا.. الخ، وإخفاق بعض مكونات سياسات الاندماج الداخلى، وتمدد خطابات التشدد لبعض دعاة الجماعات الإسلامية المتشددة، أو عناصر إرهابية ذئاب منفردة- وسط بعض إحياء الضواحى حول المدن أو أخرى داخلها، أو آخرى أماكن سكنى هذه الأقليات، وبعض أشكال الإقصاءات الاجتماعية، ونمو ظواهر الإسلاموفوبيا عقب بعض العمليات الإرهابية.
هذه الأسباب وغيرها أدت إلى استدعاء ميراث من الصور النمطية السلبية حول الإسلام والمسلمين، فى ظل النزاعات الشعبوية لدى بعض الأحزاب اليمينية الأوروبية. لا شك أن حياة الأنا الفردية والجماعية تبدو متوترة فى وسط هذه الأجواء، والصور المغلوطة والمعممة عن الذات التى تبدو قلقة ونزاعية ومشطورة.
الأنا العربية الشخصية/ الجماعية تبدو جريحة ومتخمة بالانشطارات الداخلية والألم والتوترات بقطع النظر عن انتماءات الفرد الدينية أو المذهبية أو العرقية أو القبلية أو العشائرية.. الخ.
الجروح قائمة سواء انتمى الفرد إلى الأغلبية أو إلى أقلية من الأقليات وسيعانى من أزمات الهوية والانتماء لخضوعه لأشكال من الحجب السياسى والضغوط الاجتماعية والاقتصادية، ناهيك عن أشكال الاستبداد وقمع الحريات. تزداد جروح الذات العربية الفردية والجماعية فى السياقات والأطر الأقلوية التى تعانى هيمنة الأغلبية سياسيا واجتماعيا، وفى الحياة اليومية من بعض أشكال التمييز ضدها، على نحو يثقل من الضغوط والآلام والجروح على ذات الفرد المنتمى للأقلية ولجماعته وهويتهما معاً إزاء الهوية المهيمنة. تزايدت هموم ومشاكل الذات الأقلوية عقب دولة ما بعد الاستقلال فى العالم العربى، ومع طلائع النخب القائدة. نستطيع القول إن تشكيل أبنية الدولة وأجهزتها ومؤسساتها، شكلت فضاءات للتمييزات الدينية والمذهبية والعرقية والقبلية والعشائرية والطائفية إزاء أقليات أخرى لاسيما الدينية والمذهبية والعرقية، لأن بعض آباء الاستقلال انحازوا نسبيا فى تشكيلات أجهزة الدولة والنظام إلى انتماءاتهم الأولية وأديانهم ومذاهبهم وأعراقهم وطبقاتهم الاجتماعية.. الخ. بات هذا النهج أحد أساليب اختيار النخب السياسية، وقادة الأجهزة البيروقراطية، والأمنية، والاستخباراتية، وهو ما أدى إلى تحول الدولة/ النظام إلى فضاءات لإنتاج وإعادة إنتاج التمييزات والتحيزات والانتماءات الأولية فى غالب المجتمعات العربية ما دون الدولة/ الأمة. والاستثناء فى مصر والمغرب إلى حد ما.
أدت سياسة التمييز الواقعية إلى خضوع الذات الفردية/ الجماعية إلى الأنشطارات والنكوص إلى هويات البُنى الأولية، وترددها وخصامها إزاء الهوية الجامعة للأغلبية المهيمنة رمزيا بأسم الدولة مع إقصاء الهويات الأولية الأخرى. من هنا سيطرت إستراتيجيات بوتقة الصهر القمعية والإقصائية التى فرضت سياسة الهوية الأحادية بقوة جهاز الدولة القمعى. من ناحية أخرى لم تهتم النخب السياسية الحاكمة بهويات المكونات الأولية ومعالمهما وتمثيلاتها فى بنية الدولة والنظام إلا قليلاً. والأهم غياب الاهتمام بالفرد وحقوقه وحرياته ومكانته، من هنا ولُدّ وتمدد الإحساس العميق بالانسحاق، والاستبعاد، والأخطر شيوع الانتهاكات للحريات والحقوق لاسيما الدينية. فى بعض وضعيات الأقليات الدينية والمذهبية تبدو الذوات الفردية تعانى الجحيم التمييزى إزاءها، لاسيما فى المجتمعات الانقسامية، حيث كانت ولا تزال مشكلة الاندماج الداخلى أكبر المشكلات الهيكلية التى تواجه الدولة والمجتمع فى عديد البلدان العربية كالعراق وسوريا ولبنان واليمن والسودان والجزائر منذ الاستقلال وحتى اللحظة الراهنة. كان «الربيع العربى» ذروة الانفجار الداخلى للهويات المتنازعة، وشهدت المنطقة انتهاكات دينية ومذهبية للأنا الجماعية والفردية للمسيحيين العرب أساسا فى العراق وسوريا ومصر فى ظل صعود الموجات الأصولية الإسلامية الراديكالية، وعلى رأسها تنظيم داعش الذى اعتمد فى تمدده على بعض المكونات السنية التى شعرت بإقصائها وتهميشها فى تركيبة النظام العراقى الذى صاغه بول بريمر المهندس السياسى للاحتلال الأمريكى. لا يزال النظام اللبنانى الطائفى يُعيد إنتاج البُنى الطائفية ونظام المحاصصة دونما تغيير فى ظل انتشار الفساد والجمود السياسى، وضعف مستوى الأداء الحكومى، والخلل فى موازين القوى بين حزب الله، وبين مؤسسات الدولة، وبقية الطوائف الأخرى، والازدواجية بين سلاح الحزب، وسلاح الجيش اللبنانى. الأنا الطائفية الجماعية والفردية تعيش منشطرة بين هوياتها الفرعية وبين الهوية اللبنانية الجامعة. فى السودان أدت التمييزات إلى انفصال الجنوب السودانى عن الشمال. كرس جحيم الأنا الأقلوية الفردية/ الجماعية وحشية داعش إزاء الأزيديين والمسيحيين التى شملت القتل الوحشى، وتدمير الآثار والذاكرة الحاملة لمحمولات الذات الجماعية والفردية لأبناء هذه الجماعات الأساسية فى التكوين التاريخى للعراق. حالة قاسية من الخوف والألم والتوتر الدائم للذات الفردية والجماعية، حيث تتهاوى أسس الاندماج وانكسار الموحدات الجامعة لمصلحة الحياة فى كنف الهوية الفرعية ومتخيلاتها وأساطيرها الجماعية، وتواريخ الجماعة على نحو مضاد للتاريخ العام للعراق، أو سوريا. شكلت تشظيات الأنا الكلية/ الجماعية العراقية والسورية للأقليات الدينية والمذهبية والعرقية والقومية أحد أبرز مشاهد الإقليم العربى المضطرب، وصعدت الهويات الأولية فى محاولة لإيجاد مساحات للتعبير عن ذواتها الجماعية فى عالم انقسامى ومفتت يسوده الحزن المقيم والألم القاسى. أن ضعف الموحدات الجامعة فى المنطقة يعود إلى غياب التمثيلات الديمقراطية الحقيقية لكل المكونات والقوى الاجتماعية والسياسية والدينية والمذهبية، وسيادة دولة القانون وغياب الحقوق والحريات الأساسية والأجهزة القضائية المستقلة، والحريات الدينية وحقوق المواطنة. من ناحية أخرى التمثيلات الطائفية والمذهبية المهيمنة لا تنتج سوى ذواتها وانقساماتها وتعيد إنتاج تفككها ونزاعاتها واضطراباتها فى سياقات مضطربة ومأزومة. الآنا الفردية والجماعية للأقليات الدينية والمذهبية تبدو معذبة ومهمشة، وتبحث عن ذواتها ومستقبلها الغائم فى بقايا دول ونظم منهارة لا تأبه كثيرا بأقلياتها التى تشكل جزءاً من تكوينها وثرائها التاريخى.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع