بقلم - نبيل عبدالفتاح
لا يمكن لمصر أن تهرب من ملامحها السمراء، ومن حتمية الوجود والحضور الجيوبولتيكى والتاريخى فى القارة الإفريقية، مهما حاول بعض العناصر من داخل النخبة المصرية، سواء لنقص فى المعرفة أو الإدراك السياسى أو الوعى بأهمية الانتماء الافريقى.. فى التشكل التاريخى للنخبة المثقفة والسياسية المصرية منذ مطالع النهضة تركزت اهتمامات الغالبية الساحقة بالثقافة الأوروبية والغربية أساسًا، وذلك فى إطار التحرر من الاستعمار البريطانى، وبضرورة استمداد النماذج السياسية، وهياكل الدولة والتعليم والإدارة، واستلهام نمط الحياة الحديثة، وفق هذا المسار مع إدخال بعض التعديلات والتهجينات.
كانت النخبة السياسية والمثقفة تنظر إلى ما وراء المتوسط، حيث مهاوى الأفئدة الفكرية، قلة قليلة من المثقفين، ومدرسة الرى المصرية، كانت تهتم بالقارة السمراء فى المرحلة شبه الليبرالية، إلا أن ثمة تحولا نوعيا كبيرا حدث فى ظل نظام يوليو 1952، وذلك لعدد من الأسباب على رأسها: الوعى السياسى التاريخى بالدائرة الإفريقية فى إطار الدوائر الثلاث العربية والإسلامية فى كتاب فلسفة الثورة للرئيس جمال عبد الناصر، والتى شكلت نظامه الإدراكى المحرك لسياساته الخارجية. والدور الرائد الذى لعبته مصر الناصرية فى دعم حركات التحرر الوطنى الإفريقى، وفى استقلال بعض دول القارة، وتحرك السياسة الخارجية المصرية إدراكا ووعيا بأهمية الاستقلال عن الاستعمار الغربى، وضرورة المساعدة ما أمكن فى تقديم الخبرات إلى الدول المستقلة حديثا لدعم عمليات بناء الدولة وأجهزتها، والحيلولة دون التغلغل الإسرائيلى داخل القارة.
وعى القيادة الناصرية بأهمية الدائرة الافريقية والوجود والحضور المصرى الفاعل فى نظامها لم يقتصر على الجوانب السياسية والإعلامية وبعض المساعدات والمنح والخبرات، وإنما امتد إلى تنشيط الاهتمام بالجوانب الثقافية، من خلال تأسيس معهد الدراسات الإفريقية، وتشجيع الترجمات للأدب الإفريقى، والمؤلفات السياسية والتاريخية عن القارة، وإيلاء أهمية إعلامية فى الصحف والإذاعة والتليفزيون بالتطورات السياسية والاجتماعية، وهى اهتمامات أسهمت فى تطوير الوعى شبه الجمعى للمثقفين والمتعلمين بالقارة والانتماء الافريقى المصرى، بقطع النظر عن غلبة بعض الاعتبارات الايديولوجية، وغياب روئ منهجية.
هذا الاتجاه العام فى توجهات السياسة الخارجية، واهتمامات النخبة المصرية الحاكمة شهد تراجعًا وانكسارًا كبيرًا فى عهدى الرئيسين الأسبقين السادات ومبارك.. أخطر ما تم خلال المراحل السابقة، تمثل فى تراجع الوعى. وتراجع الترجمات عن الثقافات والآداب والمجتمعات الافريقية، ومن ثم عدم متابعة التطورات والتحولات المهمة التى تجرى فى افريقيا جنوب الصحراء، من حيث التطور السياسى، واتساع الطبقات الوسطى، وانتشار وسائل ووسائط التواصل الاجتماعى والرقمنة، وارتفاع معدلات النمو الاقتصادى فى بعض دول القارة، وبروز نخب متعلمة جديدة تلقى بعضها تكوينه ما بعد العالى فى الجامعات الأمريكية والأوروبية، وفى إطار العمل فى بعض المنظمات الدولية. من هنا لم تعد افريقيا ولا النخب الافريقية هى التى كانت عقب بناء دولة ما بعد الاستقلال، من حيث قلة ونقص الكفاءات.. ثمة إفريقيا مختلفة تماماً، لا نكاد نعرفها على مستوى النخب السياسية والثقافية، ومن ثم لابد أن نعتبر قيادة مصر للاتحاد الافريقى فرصة تاريخية، نعم أقولها تاريخية إذا كنا جادين للعمل لاستعادة دورنا الفاعل مع أشقائنا فى كل دول القارة، من خلال الفهم المتبادل، المؤسس على المعرفة والوعى التاريخى بأهمية وجودنا وانتمائنا وحضورنا الافريقى. إنها فرصة تاريخية فعلا لإعادة ردم الفجوات الإدراكية وفى الوعى النخبوى وشبه الجماعى السياسى والثقافى بأفريقيا، وذلك من خلال سياسة إعلامية وثقافية، تتبنى ما يلى:
- شهر إفريقيا فى الإعلام المرئى والمسموع تقدم خلاله برامج يومية عن تاريخ دول القارة ونظمها السياسية، وشهر للسينما، ثم للمسرح، ثم للرقص الشعبى وللفنون التشكيلية الافريقية.
-تخصيص صفحتين أسبوعيا فى الصحف القومية عن الشئون الافريقية واحدة للسياسة، والثانية للثقافات الإفريقية. وتأسيس مركز ترجمة عربى- افريقى يتخصص فى ترجمة الآداب، والكتابات المتخصصة فى الشئون الافريقية.
- تخصيص جائزة مصرية سنوية للأدب الافريقى بربع مليون دولار، وتؤسس وقفية للجائزة ومجلس أمناء، ويمكن أن يشارك بعض رجال الأعمال والدولة المصرية فى هذه الوقفية، وتشكل لجان تحكيم دولية كل عام.. وفى حال نجاح الجائزة، تخصص أخرى فى مجال الفلسفة والفكر. وإعداد مشروع لترجمة خمسين رواية ومجموعة قصصية للآداب هذا العام.
ــ نشر ثلاثين مؤلفا عن تاريخ وتطور الثقافة والتكوين الاجتماعى فى السودان. وترجمة عشرين رواية ومجموعات قصصية وشعرية عن الأدب الاثيوبى، وعشرة مؤلفات عن التاريخ والثقافة والتكوين الاجتماعى الإثيوبى.
المقترحات السابقة لا تعدو أن تكون بداية للإمساك بحدث قيادة مصر للاتحاد الافريقى وتحويله إلى هّمةَ وإرادة ووعى تاريخى بمصر الافريقية ودورها فى العالم.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع