الخطاب حول الشأن العام لا يكاد يخلو من الشكوى من ضعف وازعات الانتماء الوطنى، وكل ما يتصل بالمصالح العامة، وعدم أداء العمل فى أجهزة الدولة بالكفاءة والنزاهة المطلوبة، وتفضيل المواطنين المصالح الخاصة على المصالح العامة، والمعاناة من الفساد وشبكاته.
البا ما يوجه النقد إلى أجهزة الدولة والموظفين العموميين. والمسكوت عنه هو التغافل عن نقد مشاركة فئات اجتماعية فى أنماط العلاقات والسلوك المضادة للصالح العام، والتى تعبر عن اللامبالاة، وعدم الاكتراث والإهمال وتختفى فى بعض الأحيان وراء الخطاب الشعارى حول الوطنية، وعشق مصر، والأسى من تدهور الأداء العام.
لا شك أن الخطاب حول أزمة الانتماء الوطنى ممتد منذ أكثر من أربعة عقود، ويبرز عندما تتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وغالبا ما يتم التركيز على مظاهر الأزمة وقليلاً ما يتم تناول الأختلالات الهيكلية، والأسباب المؤدية إلى وهن الانتماء، والتى يمكن إبرازها فيما يلى:
1- عدم ايلاء مؤسسات التنشئة الاجتماعية- الأسرة والمدرسة... إلخ- الأهمية الواجبة لضرورة احترام المصالح العامة، والعمل على تحقيقها، والذود عنها.
2- الطابع الشعارى والمفهوم الضيق للوطنية فى مناهج التعليم المقررة على الطلاب فى مراحل التعليم المختلفة، وإغفال الرابط بينهما وبين السلوك الاجتماعى فى تفصيلات الحياة اليومية للأطفال والناشئة.
3- عدم ربط العملية التعليمية بمشاركة الطلاب فى بعض مشروعات الخدمة العامة الملائمة، لتكوين الوعى الفردى، وإنتاج علاقات رمزية واجتماعية بمفهوم الصالح العام.
4- ضعف الاهتمام بالمواهب والكفاءات، وإهمالهم ومحاصراتهم، وندرة الفرص المتاحة أمام الشباب.
5- استبعاد بعض المتفوقين من العمل ببعض الوظائف العامة، وذلك نظراً لأصولهم الاجتماعية المتواضعة، فى مقابل تفضيل بعض أبناء العاملين فى هذه المهنة، أو تلك فى ظل تمدد ظاهرة توريث المهن فى عديد التخصصات.
6- إحساس بعض المواطنين بالتمييز تجاههم، لاسيما الشباب على أساس معايير الانتماء الدينى أو النوعى -» الجندرى»- مما يؤدى الى الشعور بعدم المساواة.
7- شيوع المحسوبية والوساطات فى الحصول على الخدمات والمصالح للمواطنين، على نحو كرس اللامبالاة بالمصالح العامة، ويضعف من روابط الانتماء والاندماج الوطنى.
8- عدم إعمال معيار الكفاءة والتخصص الدقيق والخبرات المتراكمة فى التعيين فى بعض الوظائف العامة العليا والقيادية منذ أكثر من خمسة عقود مضت، وذلك إعمالا لمعيار الموالاة، والطاعة السياسية التى سادت طيلة نظام يوليو، على نحو أدى إلى أشكال من سوء الإدارة، وضعف الكفاءة المهنية.
9- ضعف آليات الحراك لأعلى من شرائح اجتماعية لأخرى، ومن ثم ضعف الآمال التى تحرك الحوافز والقدرات الفردية على الابتكار والإبداع والانجاز والمثابرة من أجل تحسين الفرد لأوضاعه الاجتماعية والمهنية من خلال الجدية والعمل الكفء، وترتب على ذلك شيوع إدراك شبه جماعى بأن المواقع الوظيفية والمكانة الاجتماعية يسودها الجمود، وأنها أقرب الى الأقدار الاجتماعية التى لا فكاك منها, وهو إدراك بالغ الخطورة على سلامة الجسد الاجتماعى، لأنه يورث الحقد الطبقى، والاحساس بعدم الانتماء للمجموع الوطنى بكل مكوناته.
10- تآكل وانكسار بعض الموحدات الوطنية الجامعة التى تأسست تاريخياً، فى إطار الدولة المصرية الحديثة منذ محمد على وإسماعيل باشا، ثم تشكل الحركة الوطنية الدستورية المعادية للاستعمار البريطانى، وحول ثورة مصر الوطنية عام 1919، والمساواة الدستورية والقانونية بين جميع المواطنين أيا كانت أديانهم ومذاهبهم، حيث الدين لله والوطن للجميع، وفى ظل مفهوم الاستقلال الوطنى ومبدأ العدالة الاجتماعية مع مشروع جمال عبد الناصر التحررى والاعتماد على الطبقة الوسطى والوسطى الصغيرة، والفئات الشعبية العريضة. ضعفت هذه الأواصر مع سياسات الباب المفتوح، والفوضى التى صاحبتها، والهجرة إلى إقليم النفط، التى أسهمت فى ترسيخ أنماط من القيم الاستهلاكية والبراجماتية الريعية التى أثرت سلبيا على مفاهيم الصالح العام، والانتماء إلى القيم والرموز الوطنية العليا. من ناحية أخرى أسهمت أنماط التدين الوضعية حول الإسلام فى الدول النفطية إلى تركيز الانتماء الفردى والجماعى حول الدين، بالنظر إلى أن نمط الدولة السائد فى هذه البلدان لم يستكمل الشروط التاريخية والاجتماعية والسياسية لبناء نموذج الدولة الأمة، ومن ثم يسيطر نسبياً الانتماء الدينى والقبلى والعائلى والمناطقى على الانتماءات الجامعة. من ناحية أخرى سادت عمليات تديين الدولة خلال أكثر من خمسة عقود مضت، والتى أدت إلى نشوء وتفاقم المشكلات الطائفية، التى أثرت سلباً على المبادئ والقواعد المؤسسة للتكامل الوطنى تاريخياً، وبروز الولاءات الفرعية حول الدين، والمذهب، والمنطقة والعرق.. الخ.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع