بقلم - نبيل عبدالفتاح
أحد أكبر مشكلات نظام السياسة الخارجية المصرية، يتمثل فى الاعتماد على الحركة الدبلوماسية أحادية البعد، والتى تتمثل فى محضُ التمثيل الدبلوماسى التقليدى الذى ينهض ببعض وظائفه العادية من تبادل البعثات، والزيارات، وحضور المؤتمرات الدولية، دونما استصحاب أبعاد أخرى فى الوعى السياسى، والثقافى توظف فى عملية بناء تصورات وحركة السياسة والدبلوماسية المصرية، وأبرز الأمثلة على ذلك يتمثل فى المكون الإفريقى فى الإدراك السياسى لعمليات صناعة القرار، وفى حركتنا السياسية والدبلوماسية تجاه أفريقيا، التى ظلت فى ظل عهدى السادات ومبارك على نمط من الدبلوماسية التقليدية، وذلك على عكس المرحلة الناصرية فى إدراك القيادة السياسية، وفى حركتها إزاء القارة السمراء حيث زاوجت بين رهافة الوعى السياسى بأهمية القارة وضرورة مساعدة دولها المستقلة، وتحت نير الاستعمار الغربى، وبين السعى إلى دعم عمليات تحرر هذه الدول، والعمل مع الدول المستقلة ودعمها فى إطار حركة التحرر الوطنى، وعدم الانحياز، ناهيك عن المزاوجة بين السياسة والتنمية والثقافة.
كان تركيز السادات على حركة مصر للانخلاع النسبى ما أمكن له من العلاقات الوثيقة مع الاتحاد السوفيتى، والكتلة الاشتراكية، كقربان لإعادة بناء علاقاته مع الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، والاقتراب الحثيث من محور الدول العربية النفطية لاسيما عقب حرب أكتوبر، وسياسة الانفتاح الاقتصادى، ثم اتفاقية كامب ديفيد، وتراجعت السياسة الخارجية المصرية عن الاهتمام الكبير بإفريقيا وحركة عدم الانحياز لتغدو ذات طابع شكلى والاستفادة من بعض الفائض التاريخى لها فى المرحلة الناصرية. من ناحية أخرى تمددت السياسة الخارجية الإسرائيلية ودورها على نحو نشيط وفاعل سياسيا، ودبلوماسيا واقتصاديا، وفى تدريب وتكوين كوادر دول القارة وفى تقديم المنح الفنية والتعليمية لبعض هذه الدول الإفريقية، واقتصر الدور المصرى على صندوق المعونة الفنية لإفريقيا على محدوديته وضعف تأثيره.
استمر هذا التقليد الساداتى الانكماشى فى الاهتمام بالقارة فى ظل عهد مبارك، خاصة عقب محاولة اغتياله الفاشلة فى أديس أبابا، وأخذ التقلص فى التمدد، بينما التغيير والتطور فى الدول الإفريقية يتنامى فى بعض المجالات، وفى تشكيل النخب التكنوقراطية، وفى عودة بعض المبعوثين إلى الجامعات الأمريكية والأوروبية إلى بلدانهم، وفى عمل بعض الكوادر فى المنظمات الدولية، وفى المراكز الدولية الكبرى المتخصصة، وفى البنك وصندوق النقد الدوليين، أى لم تعد إفريقيا هى التى كانت عقب ما بعد الاستقلال من نقص الكوادر الشديد، وفقر الخبرات فى عديد من المجالات. إفريقيا جديدة لا تعرفها غالب النخب المصرية التى ظلت أسيرة صور نمطية بسيطة وأحادية عن قارة تتغير، بينما كل المؤشرات للعين البصيرة تشير إلى تغيرات مهمة فى دول القارة، وبدأت معادلات ومواقع القوة الجيو سياسية تتغير، ونحن نتراجع فى إطارها، لأننا نتناسى أن مصر دولة إفريقية بقدر ما هى عربية ومتوسطية!
منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد والحديث عن نقل مياه النيل إلى سيناء، والحديث فى الصحافة وبعض مراكز البحث الإسرائيلية حول إمكان نقل مياه النيل لإسرائيل والخرائط التى نشرت، نبهنا وآخرون كتابة إلى مخاطر هذه الرؤية استراتيجيا وجيوبولتيكياً على مصالحنا، وأن حروب المستقبل ونزاعاته ستدور حول ظاهرة نقص الموارد المائية فى عديد من الأقاليم الفرعية فى عالمنا، ومنها منطقتنا، وأن الميزانية المائية المصرية ستعانى نقصاً فى مواردها، ولم يكترث أحد فى النخبة السياسية أو فى الإعلام لهذه المشكلة الكبرى التى ستواجهنا فى أوائل الألفية! جاءت صدمة سد النهضة فى عهد مبارك دون ردود فعل سياسية وعلمية مدروسة، وهو ما استفادت منه إثيوبيا وتقدم العمل فى مشروعها واستفادت من بطء نظام مبارك ونمطيته، وانعزاله عن الشئون الأفريقية، ثم فى مرحلة ما بعد 25 يناير 2011، والهزل السياسى الساذج فى ظل حكم الإخوان والسلفيين وما سمى بالدبلوماسية الشعبية، إلى أن تنبهت النخبة الحاكمة عقب 30 يونيو 2013 إلى أهمية التحرك الذى لا يزال محدوداً وغير مؤثر! ولكى يتم ذلك لابد من سياسة جديدة تعتمد على دمج المكون الثقافى فى سياساتنا الخارجية على النحو التالى:
1- تطوير جذرى لمعهد الدراسات الأفريقية وتسميته معهد مانديلا ناصر مع جذب خبراء أفارقة للتدريس، مع برامج بحثية مع جامعات ومراكز بحث إفريقية، لتطوير المعرفة والوعى والتكوين لدى كوادر ودبلوماسيين وباحثين، 2- زيادة أعداد المنح الدراسية فى كل المراحل الجامعية إلى الدكتوراه بالإنجليزية والفرنسية لطلاب من أفريقيا.
3- إقامة سلسلة من المهرجانات الإفريقية والعربية الرسمية مع جوائز قيمة فى السينما، والمسرح، والموسيقى، والتصوير والنحت والتصوير الفوتوغرافى.. إلخ، وفى الرواية والشعر والقصة القصيرة.
4- برنامج لنشر تراث الرواية والقصة والشعر الأفريقى والإعمال الجديدة ، وجائزة سنوية مرموقة تمنح بالتبادل.
5- تشجيع المنظمات الأهلية المصرية على التبادل الثقافى مع إفريقيا، وتيسير عملها. ما سبق يشكل المدخل الأولى للارتقاء بالوعى المصرى السياسى إزاء أفريقيا، وتطوير حركتنا إزاء قارة فى طور النمو والنهوض.
نقلا عن الاهرام القاهرية