بقلم : مي عزام
«قديما قال العقاد: «لست أهوى القراءة لأكتب، وإنما أهوى القراءة لأن عندى حياة واحدة، وحياة واحدة لا تكفينى، والقراءة تعطينى أكثر من حياة» وأنا أردد العبارة نفسها لكن يحل لفظ السينما محل القراءة، فكل فيلم جيد يجعلنى أكثر صلة بالحياة وفهما لها وتعمقا فيها.. باختصار يقدم فلسفة الحياة.. وهذا ما أقدمه فى هذه الزاوية الأسبوعية التى تختلط فيها الفلسفة بالسينما، واخترت لها مصطلحا يمزج بينهما.
ماذا لو تحققت كل مخاوفك؟ وفقدت بين ليلة وضحاها كل ما كنت تأمل فى الحفاظ عليه وما تعودت أن تتمسك به وما ظننت أن الحياة بدونه مستحيلة، ماذا يمكن أن يحدث لك حينذاك؟ هل فكرت يوما فى ذلك؟ هل حاولت أن تكتب بنفسك ولنفسك سيناريو الخسارة؟ وأن تجعل له نهاية مثل الحياة.. متقلبة.. حزينة.. ومبهجة.. فيها مكسب كما فيها خسارة.. الحياة دائما تحمل لنا مفاجآت.. فلا أحد يعرف ماذا يخفى لنا المستقبل ولا ما ينطوى عليه الغيب.
نخسر كثيرا، حين لا نعرف كيف نتقبل الخسارة ونُهيئ أنفسنا لها، تصبح الخسارة خوفنا المعلق فوق رؤوسنا وأداة للسيطرة على عقولنا، يكسب من يرى فى الخسارة إضافة وليست خصما، فكل شىء يحمل فى طياته نقيضه، وهو ما نعبر عنه دوما بالنظرة إلى نصف الكوب الممتلئ وليس الفارغ.
حول هذه المعانى الفلسفية التى تلمس عمق الحياة تدور أحداث الفيلم الفرنسى «المستقبل» L›avenir، إنتاج 2016، الذى حصلت مخرجته الفرنسية الشابة ميا هانسن لاف (37 سنة) على جائزة الدب الفضى فى مهرجان برلين منذ عامين وهى التى كتبت سيناريو الفيلم، وقامت ببطولته الممثلة الفرنسية إيزابيل أوبير(65سنة)، الذى حصلت عنه على جائزة أحسن ممثلة من عدة مهرجانات دولية، الفيلم بسيط وعميق كما الحياة، تقوم فيه إيزابيل اوبير بتجسيد دور «ناتالى شيزو»، سيدة خمسينية، تعمل بتدريس الفلسفة لطلاب المرحلة الثانوية فى إحدى مدارس باريس، وكذلك زوجها هاينز، الذى تختلف عنه فكريا، فهى أكثر مرونة، بدأت حياتها مؤمنة بالفكر الشيوعى وبعد ثلاث سنوات هجرته بعد أن تبين لها أنه وهم، وهى مدرسة متفاعلة مع طلابها، تعيش ناتالى وهاينز حياة عائلية مستقرة ومنسجمة وتبدو مثالية، لديهما ابنة كلويه وابن يوهان، كلاهما استقل بحياته بعيدا عن منزل الأسرة، أمها إيفيت سيدة مسنة تشعر بالوحدة الشديدة وهو ما يجعلها تكذب دائما بشأن حالتها الصحية لتستدر عطف ابنتها الوحيدة، التى تقرر فى النهاية ضرورة أن تودعها دار مسنين حتى تكون تحت رعاية على مدار الساعة، لكن حالة إيفيت تسوء وسرعان ما تموت بعد فترة قصيرة من انتقالها إلى الدار، فى هذه الأثناء يعترف هاينز لزوجته بأنه يعرف أخرى وسينتقل للحياة معها، وبدل أن تصرخ وتنتحب وتحاول أن تردعه أو تهدده فإنها ترد بهدوء واستكانة: وأنا التى كنت أظن أنك ما زلت تحبنى. ثم تشيح بنظرها بعيدا.
الخسارات تتراكم على ناتالى.. واحدة تلو الأخرى، ضربات موجعة ومؤلمة، موت الأم، وخذلان الشريك الذى ظنت أنه سيبقى على حبه لها إلى الأبد، المصائب لا تأتى فرادى، فهناك خسارة أخيرة تدق بابها: تتوقف دار النشر عن طبع كتبها الدراسية لأنها لا تلقى رواجا، الخسارة المادية تكمل حلقة الخسائر المعنوية.. فى النهاية تجد ناتالى نفسها وحيدة وقد خسرت الكثير. كان عليها أن تقتنع ألا شىء فى الحياة يستمر إلى الأبد.. كل شىء معرض للتغيير.. كل شىء نفترض أنه دائم وباق يمكن أن يذهب مع الريح، ويصلح لأن يكون محور جدل ونقاش كما كانت تفعل مع طلابها فى حلقات الدراسة.
استطاعت ناتالى أن تتعايش مع الخسارة، واستعادت قدرتها على إدارة حياتها بطريقة جديدة، فعلت ذلك بالوعى ونضجها الفكرى، استخدمت ما تعلمته من الكتب فى حياتها، قبلت بالخسارة واعتبرتها اختبارا لقدرتها على التعايش وتقبلها للحياة كيفما تكون، وجدت فى طفل ابنتها كلويه عوضا عن موت والدتها وبداية لدورها كجدة، دورة الحياة تتجدد.. وافقت على عرض من طلابها بالمشاركة فى موقع فلسفى على الإنترنت تستثمر فيه وقتها وعلمها. الحياة كما تأخذ تُعطى، كل يوم هناك بدائل عما خسرناه، لكننا أحيانا لا نكون مؤهلين ومستعدين لقبول قانون الحياة وسنة الكون... أولادى غادروا المنزل وزوجى تركنى وأمى توفيت لكننى وجدت حريتى الكاملة التى لم أختبرها من قبل بهذه العبارة اختصرت ناتالى حالها، وهى تتحدث إلى تلميذها المفضل والنابه فابيان، ناتالى فى فيلم المستقبل، تشبه كثيرا جولى فينيون (جولييت بينوش) فى فيلم ثلاث ألوان: أزرق للمخرج البولندى كريستوف كيسلوفسكى، الذى جسدت فيه دور امرأة مكلومة بعد مصرع زوجها الموسيقار المعروف وابنتها الوحيدة فى حادث سيارة، ثم عرفت بعد ذلك أن هذا الزوج كان على علاقة بأخرى وله منها طفل على وشك الولادة.. لم تندب حظها بل تنازلت عن كل ما ورثته من مال عن زوجها لأم طفله.. وتحررت أخيرا بالخسارة.. الحرية الحقيقية لابد أن تدفع ثمنها خسارة.
أقارن أحيانا بين حال هؤلاء النسوة وحال نساء مصريات عشن نفس المحنة، وأتخيل كيف سيكون حالهن، فالإنسان أينما كان يعيش نفس الاختبارات والمحن، لكن تختلف ردود أفعاله طبقا لثقافته وعاداته وسلوكه.
الخسارة ليست دوما هزيمة.. والمكسب ليس دوما انتصاراً.. الأمر يتوقف على نظرتك للأشياء ومعانيها.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع