(1)
هذه الأقصوصة تروى بأشكال مختلفة، ولكن الهدف منها واحد. يحكى أن إبليس أراد الرحيل من مكان كان يسكن فيه مع أبنائه، فرأى خيمة، فقال لا أُغادرن حتى أفعلن بأصحابها الأفاعيل، فذهب إلى الخيمة، فوجد بقرة مربوطة بوتد، وامرأة تحلب هذه البقرة، حرك الوتد، فخافت البقرة وهاجت،
فانقلب الحليب على الأرض، ودهست البقرة طفل المرأة، الذي كان يجلس بجوارها، فسقط قتيلا، استشاطت الأم غضبا وألما، فطعنت البقرة بالسكين بشدة طعنا مميتا، سقطت البقرة ميتة، عاد الزوج فرأى طفله ميتا وكذلك البقرة، فضرب زوجته وطلقها، وجاء قومها فضربوه، ثم جاء قومه، فاقتتلوا وسالت الدماء غزيرة.
تعجب أبناء إبليس، وسألوه: ما الذي فعلت؟! قال: لا شىء، فقط حركت الوتد.
وهكذا يظن أغلب الناس أنهم لم يفعلوا شيئا، وهم لا يعلمون أن بضع كلمات يلقيها أحدهم في أذن أخيه يمكن أن تقلب حاله رأسا على عقب، تكسر القلوب، وتسبب خلافا وشقاقا، وتشحن الأجواء وتقطع الأرحام.
راقب كلماتك قبل أن تلفظ بها، فحين تخرج لن تعود.. واحذر من تحريك الوتد.
(2)
في حياتنا نقابل أشخاصا من نوعية محركى الوتد، الوشاية والنميمة جزء من سلوكهم اليومى، يشعلون الحرائق أينما حلوا ويبذرون البغضاء أينما كانوا، وفى المقابل نجد النقيض، أشخاصا يحل السلام أينما وجدوا، تطمئن القلوب في حضرتهم، ويخففون المصاعب والمحن بكلماتهم الحانية.
أحيانا يكـون الإنســان على حافة الانهيار، يكاد يصرخ من الألم النفسى، شعوره بالضيق يجعله يرى الحياة ليلا طويلا بلا فجر، في هذه اللحظة، يحتــاج لمن يقول له كلمة طيبة ويربت على كتفه بعطف، أكثر مـن حاجته إلى نصـح أو مساعدة مادية. كل منا مر بهذه اللحظة، التي نشعر فيها بالوحدة والضعف والهوان على الناس، نبحث حولنا عمن يشد أزرنا ويشعرنا أننا لسنا وحدنا، ونكون محظوظين إذا التقينا بجابرى الخواطر.
(3)
والجبر كلمة مأخوذة من «الجبار»، وهو اسم من أسماء الله الحسنى، وله معان غير الجبر، فهو سبحانه الذي يجبر الفقر بالغنى، والمرض بالصحة، والخيبة بالتوفيق، والعسر باليسر، والخوف بالأمن، واليأس بالأمل. الله لطيف بعباده، متصف بكثرة جبره حوائج خلقه، وسورة الضحى مثال لجبر الخواطر، أولها حديث عن جبر الله خاطر نبيه ورسوله محمد:
«مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى»،
ثم يوجهنا تعالى للفئات الأولى منا بجبر الخاطر: اليتيم والسائل والمحروم: «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ».
(4)
جبر الخواطر من العبادات التي يتقرب بها الإنسان إلى ربه، وهو تهذيب وترقيق لمشاعره الطيبة، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من أكثر الناس جبرا للخواطر، وحين عبس في وجه الأعمى الذي جاءه ساعيا للهداية عاتبه ربه في سورة «عبس».
والأقربون أولى الناس بجبر الخواطر، أتأذى كثيرا من الزوج الذي يسخر من زوجته، حين يقارن جسدها المترهل بأجسام نجمات هوليوود الممشوقة، وأقدر الابن البار الذي يشترى لوالده جوارب جديدة لأن القديمة بها ثقوب، ولكنه حين يقدمها يستحى من أبيه ويخشى أن يكسر خاطره، فيذكر أنه وجد تخفيضا كبيرا عليها فاشترى لنفسه ولأبيه. في هذا الزمان تشتد حاجتنا إلى مواساة بعضنا البعض لأن أصحاب القلوب المنكسرة كُثر.
جبر الخواطر لا يحتاج إلى كثير من الجهد أو المال، لكن يحتاج إلى عطف وتسامح وتدريب على الكلمة الطيبة والشعور بآلام الآخرين، لا تبخلوا على غيركم بجبر الخاطر، ما ستقدمه اليوم من خير سيعود لك غدا مضاعفا، فالحسنة عند الله بسبعة أمثالها.
كل سنة والمصريون بخير بمناسبة قرب حلول عيد الفطر المبارك، وأدعو الله أن يجعلنى وإياكم من جابرى الخواطر لا محركى الأوتاد.