بقلم : مي عزام
(1)
كان الخوف من أن تموت وحيدة هاجسا استولى على عقل ووجدان والدتى، رحمها الله، رغم أن لها ابنا يعيش على بعد خطوات منها. حين وافتها المنية كنت أجلس بجوارها وأمسك بيدها، لم تشعر بى، كانت منشغلة عن عالم الشهادة بعالم الغيب.. ولحظة مفارقة الروح سجن الجسد، بعدها بشهور قليلة، توفى أخى الكبير أثناء نومه، لم تعرف زوجته ولا أولاده أنه فارق الحياة، إلا حين ذهب أحدهم ليوقظه ليصلى الظهر، كلاهما كان محاطًا بأهله ولكنه فى النهاية واجه الموت وحيدا.
الفيلم الأمريكى «الأستاذ» the professor إنتاج 2018 يجسد فيه الممثل جونى ديب دور أستاذ جامعى كلاسيكى، يكتشف فجأة أنه مصاب بسرطان الرئة وأن الباقى من عمره شهور معدودة، خبر صادم لشخص لا يشرب السجائر ويعيش حياة رتيبة مع زوجة يفتقد معها الود والسكينة، لكن يستمر فى الحياة معها فقط لأنه كان يخشى الموت وحيدا بلا صحبة، هكذا يصارح ابنتهما الوحيدة، خوفه جعل حياته السابقة بلا معنى فقرر أن يعيش القليل الباقى بلا قيود، واختار أن يواجه الموت حرا.. طليقا.. وحيدا.. بعيدا عن أسرته ووطنه.
(2)
الخوف قيد يأسرنا، ويثقل خطواتنا وقد يجعلنا نوافق على حياة لا نرضاها ولكن نستسلم لها لأن الخوف يصور لنا أنه خارج حدودها يترصدنا شر بالغ. فيلم «القرية» The Village أمريكى إنتاج 2004، تدور أحداثه فى قرية منعزلة عن الحضارة الحديثة، سكانها يعيشون طبقا لتقاليد وعادات بالية، لا أحد من أبنائها يقترب من حدودها لأنه توجد غابة مسكونة بمخلوقات شريرة تقتل كل من يقترب منها، الجميع يعيش ساكنا راضيا عن حياته البسيطة التى لا يعرف غيرها إلى أن تتفجر الأزمة، ويتعرض شاب من القرية للاعتداء عليه ويكاد يفقد حياته، لا يستطيع الطبيب أن يداويه فعلاجه خارج القرية، لكن من يجرؤ على عبور غابة الرعب!! لم يتبرع أحد بالذهاب سوى «إيفى» الفتاة العمياء التى تبادل الشاب الحب، والتى تكتشف أن ما تربوا عليه لم يكن سوى أكذوبة، وأن هذه المخلوقات الشيطانية ليست سوى أقنعة وملابس زائفة اخترعها عمدة القرية وأتباعه لترويع أهلها ليبقوا فيها ولا يفكروا فى الخروج منها، ربما كان هدف شيوخ القرية نبيلًا، فهم أرادوا لأهلها العزلة حتى لا يتعرضوا لشرور المدنية الحديثة لكنهم حجبوا عنهم فرصة الاختيار، والنتيجة أن ظلت القرية على حالها لا تتقدم خطوة للأمام أسيرة الخوف الذى تمت زراعته فى نفوس أهلها.
(3)
«الخوف» شعور مهمته الأساسية الحفاظ على حياة الإنسان وتأهيل الجسد لسرعة الفرار من الأخطار المحدقة به والنجاة منها، كثيرا ما تكون مخاوفنا غير حقيقية لكن متخيلة ومصنوعة أحيانا من قبل آخرين كما فى حال القرية المنعزلة والحكومات الشمولية المستبدة. الخوف يجعلنا مرعوبين من المستقبل الذى لا نعرفه وما قد يحمله لنا من مفاجآت تهدد ما استقررنا عليه كما فى حال الأستاذ الجامعى. الخوف ينمو ويصبح عبئا حقيقيا كلما تقدمنا فى العمر وضعفت الهمة، وقد يستخدمه البعض فى استغلال الآخرين والسيطرة عليهم سواء على المستوى الشخصى أو العام.
(4)
كالغمامة التى تمنع أشعة الشمس يكون الخوف، يجعلك غير قادر على رؤية الأمور البسيطة الواضحة والمنطقية، أمى تخيلت أنها ستقابل الموت بمشاعر الأحياء، ولقد أجاب محمود درويش عن مخاوفها قائلا: «يكونُ فلا نكونُ»، الخوف يجعلنا عاجزين عن اتخاذ القرار المناسب لحاضرنا والتخطيط الجيد لمستقبلنا، وقد يسلبنا الإرادة والرغبة فى التغيير حتى لو كان للأفضل. محاولة الخروج من كهف الخوف تلاقى صعوبات ومقاومة، فالإنسان عبد لما اعتاد عليه من تفكير وسلوك.. حياتنا هى أن نكون كما نريد.. ونريد أن نحيا قليلًا بدون خوف.