بقلم : مي عزام
كتب «إسماعيل فهمى»، وزير خارجية مصر الأسبق، فى كتابه «التفاوض من أجل السلام فى الشرق الأوسط» فى الفصل الخاص بأسباب استقالته عن رحلة السادات للقدس قائلًا: «كنا فى قصر الضيافة فى سيناء (قرية رومانية) عندما بدأ الرئيس السادات يناقشنى فى فكرته بالذهاب إلى القدس، لم نكن نطير فوق تركيا متجهين إلى إيران أو نعبر الجبال كما قال فى مناسبات عدة وكتبها فى (البحث عن الذات) كل ما فى الأمر أنه أراد تغليف مبادرته المزعومة بهالة من الغموض، وأنها تبادرت إلى ذهنه بطريقة روحية، حين كان يطير فوق السحاب، وببساطة، هذا الحديث كله لا صحة له مطلقا؛ فالسادات فكر فى المشروع خلال وجوده فى سيناء، أثناء زيارته لرومانيا تحت رئاسة نيكولاى تشاوشيسكو فى 28 أكتوبر 1977».
«2»
ما كتبه «فهمى» جعلنى أفكر فى كيف يضفى بعض الساسة هالة من الغموض والروحانيات على قراراتهم لتبدو كأنها وحى من السماء، هدفه الخلاص من شرور العالم وتحقيق السلام على الأرض، فى حين أن الحقيقة قد تكون بعيدة عن ذلك وغير جذابة، ما حدث من قبل يتكرر الآن مع ما تسميه الإدارة الأمريكية «صفقة القرن» الذى تسوق لها على أنها فرصة العمر لخلاص الشعب الفلسطينى من معاناته اليومية وتحقيق حلم الرفاهية المشتركة والاستقرار الأمنى لدول الجوار فى المنطقة التى تعيش أطول صراع عرفه التاريخ الحديث والمسمى القضية الفلسطينية.
«3»
الشق الاقتصادى من صفقة القرن مطروح فى ورشة عمل المنامة (لا أعرف نتائجها لأن المقال يرسل قبل انتهاء أعمالها)، والمدهش فى هذه الصفقة التى يتولى ملفها جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب، أن أمريكا لا تقدم سوى الرعاية، وكذلك حليفتها إسرائيل التى لا تتحمل عبئا، فكل أعباء الصفقة يتحملها العرب، فى حين تشارك أمريكا وإسرائيل فى حصد الثمار لو تحقق الأمر، فهى حتى ليست صفقة بالمفهوم التجارى المحض، فالصفقة تتم بين بائع ومشترٍ، بائع لديه ما يريده المشترى، ويتفاوضان على المقابل حتى يتفق الطرفان ويتراضيا؛ فالرضا ليس جزءًا من الصفقة.
لماذا، إذن، يتم تداول هذا الأمر الذى يبدو عبثيا من الأساس باعتباره فرصة؟
أعتقد لأنه لم يعد لدى العرب أوراق ضغط تسمح لهم بتفاوض متوازن وعادل للجانبين، مما يجعلنا نفكر: هل مصطلح صفقة مناسب، أم أنه الغموض المضلل الذى يستخدمه الساسة؟!
«4»
ما يروج على أنه صفقة مربحة للجانبين (العربى والإسرائيلى) فى حقيقته معاهدة استسلام وخضوع لفكرة التفوق الإسرائيلى والحماية الأمريكية الضرورية. التغيرات الكبيرة التى حدثت فى توازنات القوة فى المنطقة فى العقد الأخير أدت إلى تغيير فى الثوابت العربية، لم يعد الكيان الصهيونى العدو الأول للعرب كافة، ولكن استُبدال به إيران وتركيا والجماعات الإرهابية بالنسبة لدول عربية عديدة.
هذا التباين فى مواقف العرب جعل من الجامعة العربية كيانًا غير مؤثر، واتفاقيات التعاون والدفاع العربى المشترك مجرد حبر على ورق؛ فالصراعات المندلعة هنا وهناك على امتداد الوطن العربى، ليست بين أطراف خارجية وعربية، ولكن بين العرب أنفسهم، مع وجود أطراف خارجية مؤثرة. الانقسام العربى وغواية السلطة والرغبة فى الهيمنة سبب وجود هذه التدخلات.
«5»
الصراعات الأهلية فى المنطقة العربية، أساسها تراكم مشاكل داخلية: حكم سياسى غير رشيد، إدارة سيئة للموارد، فساد، غياب العدالة الاجتماعية بجانب خلل فى استراتيجية الدفاع عن الأمن القومى.
العرب فى أزمة وجود، والمستقبل ينتحر على أعتاب حدودنا المهددة، وإن لم نبدأ بإصلاحات داخلية جذرية فى بلادنا بالتوازى مع امتلاك أدوات للتعامل مع الحروب بالوكالة والتفاوض المتوازن، فبالتأكيد لن نصل للمستقبل المنشود.