بقلم : مي عزام
(1)
فى حديث للرئيس الروسى بوتين مع قناة «روسيا 1»، أجاب عن سؤال ما إذا كانت روسيا ستفسد العلاقات مع الولايات المتحدة فى ظل الرئاسة الجديدة قائلًا: «العلاقات الفاسدة لا يمكن إفسادها». وإجابته تعبير عن المرحلة الصعبة التى تمر بها العلاقة بين البلدين والتى تعيد للأذهان فترة الحرب الباردة بينهما. متابعة الأخبار الدولية والإقليمية والمحلية تشير إلى أن العلاقات الفاسدة ليست بين روسيا وأمريكا فقط لكنها من سمات المرحلة التى يمر بها العالم، العلاقات الفاسدة منتشرة بين الدول شرقًا وغربًا، جنوبًا وشمالًا، والعلاقات الفاسدة تزحف أيضًا داخل حدود الدول، وليس فقط عبر حدودها، بين فئات الشعب الواحد وبين أنظمة الحكم والمواطنين.. الشك أصبح عنوانًا وانعدام اليقين وغياب المعايير الأخلاقية الواضحة ومحددة سلفًا يؤديان إلى تطبيق سياسة المعايير المزدوجة مع القضايا العالقة، مما يقلل من ثقة الناس فى النظام العالمى وفى أنظمة حكم الدول، وفى قدرة كليهما على تحقيق العدالة والشراكة فى العلاقات الدولية وبين مواطنى الدولة الواحدة.
(2)
كتاب المفكر والأكاديمى الكندى ألان دونو:
«LA Mediocratie» أو نظام التفاهة، كما ترجم بالعربية، يحدثنا عن التغيرات الكبيرة التى حدثت فى عالم السياسة ومجال الدولة والشأن العام، وكيف يفتقد العالم الآن القادة أصحاب الرؤية العالمية الواسعة المتمسكين بالمفاهيم الأخلاقية، وهو يؤرخ لمولد جذور حكم التفاهة بعهد مارجريت تاتشر فى بريطانيا، يقول فى كتابه: إنه يومها جاء التكنوقراط إلى الحكم، استبدلوا السياسة بمفهوم «الحوكمة»، واستبدلوا الإرادة الشعبية بمفهوم «المقبولية المجتمعية»، والمواطن بـ«الشريك». فى النهاية صار الشأن العام تقنية «إدارة» لا منظومة قيم ومُثُل ومبادئ ومفاهيم عُليا. وصارت الدولة مجرد شركة خاصة تدار بمفهوم الربح والخسارة. وصارت قاعدة النجاح أن «تلعب اللعبة »، لم يعد الأمر شأنًا إنسانيًّا، بل «لعبة» يلعبها الجميع رغم أن أحدا لا يتكلم عنها، ولا قواعد مكتوبة لها، ولكنها تتمثل فى الانتماء إلى كيان كبير ما، تستبعد القيم فيه من الاعتبار، فيختزل النشاط المتعلق به إلى مجرد مصالح متعلقة بالربح والخسارة الماديين، كالمال والثروة أو المعنويين كالسمعة والشهرة والعلاقات الاجتماعية، وذلك إلى أن يصاب الجسد الاجتماعى بالفساد بصورة بنيوية فيفقد الناس تدريجيًّا اهتمامهم بالشأن العام، وتقتصر همومهم على فردياتهم الصغيرة، وهكذا ننخرط فى لعبة تصبح أعظم من أنفسنا، ورغم أنه عادة ما يكون بين الأشخاص الطموحين أناس ذوو معايير عالية تنشد النجاح الرفيع وأخرى متدنية يبحثون عن النجاح السهل، فإن من يدير اللعبة هى الفئة الثانية عادة، لأن أفرادها أقرب إلى ما تتطلبه الطبيعة اليومية للحياة من تبسيط ونبذ المجهود والقبول بكل ما هو كافٍ للحدود الدنيا. فإن لم يرتفع هؤلاء إلى المرتبة العالية للأوائل، يحرصوا على أن ينحدر هؤلاء إلى دركهم، والانحدار أمر يحدث بسرعة وبشكل مفاجئ، وما يلبث المرء إلا وقد وجد نفسه قد سقط من عليائه وانضم إلى من فى السفح، فـ«التسفل أيسر من الترفع»!.
(3)
حديث «ألان دونو» ليس نظريًّا، لو تأملت ما يحدث حولك ستجد تطبيقاته جلية، ولعل الظاهرة الترامبية أحد تداعيات نظام التفاهة التسليعى، والذى تم الترويج له من قبل الرأسمالية العالمية، وفيه يتقزم دور الإنسان الفرد وقيمته فى الواقع ويتم تضخيمه فى العالم الافتراضى ويتم الترويج لذلك على أعلى مستوى.
العالم يحتاج فى السنوات القليلة القادمة لوضع نظام عالمى قائم على المشاركة لا المغالبة، نظام عالمى يحافظ على مقدرات كوكب الأرض وعدم استنزاف خيراتها لصالح مزيد من الاستهلاك الشره الذى تغذيه الرأسمالية المتمثلة فى الشركات العالمية فى نفوس البشر، نظام يحقق العدالة للضعيف قبل القوى، والمطلوب من أمريكا- كدولة عظمى- أن تقاوم إغراء الاستحواذ والهيمنة وتعيد صياغة علاقتها الدولية وفق القيم ومفاهيم المشاركة الإنسانية وليس مجرد تحقيق مصالحها على حساب الآخرين.
والمطلوب منا كأفراد أن نقاوم التشوهات فى المفاهيم ونرفض كل ما يشدنا إلى أسفل، وأن نعيد لحياتنا مفاهيم المشاركة والمحبة والكرامة الإنسانية وأن نعلى المصلحة العامة على المصلحة الفردية وإلا سيكون مصيرنا جميعًا الهلاك.