بقلم : مي عزام
(1)
خلال عام 2015، ولد 5.1 مليون طفل فى الاتحاد الأوروبى، وتوفى 5.2 مليون شخص. سجل الاتحاد الأوروبى، لأول مرة فى تاريخه الحديث، انخفاضًا فى عدد سكان. فى اليابان بلغ التعداد السكانى أقصى زيادة له عام ٢٠١٠، حيث وصل إلى ١٢٨ مليوناً، ثم أخذ فى التناقص، وطبقا للتوقعات سيكون ١٠٧ ملايين تقريبا، بحلول عام ٢٠٤٠.
التراجع فى نسب المواليد فى الدول المتقدمة رافقه تقدم علمى فى مجال الصحة وتحسن فى مستويات المعيشة، مما أدى إلى رفع متوسط العمر، على سبيل المثال كان متوسط الأعمار فى اليابان، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، 50 سنة للرجال و54 سنة للنساء، وصل إلى 82 سنة للرجال و87 للنساء، ومن المتوقع ان يرتفع إلى 90 سنة.
تقلص الفئة العمرية المنتجة من السكان فى هذه البلدان يقلل من إمكانيات النمو الاقتصادى، ويؤدى إلى انخفاض الناتج المحلى، وسيكون من الصعب الحفاظ على نظام المعاشات والرعاية الصحية والاجتماعية الحالى، وبالتالى سينخفض المستوى المعيشى بشكل عام.
(2)
جائحة كورونا جعلت أزمة كبار السن أكثر وضوحا من اى وقت مضى. نظم الرعاية الصحية فى معظم الدول الأوروبية لم تكن مستعدة لاستقبال هذه الأعداد الكبيرة من المصابين دفعة واحدة، وأصبح السؤال حول الفئات العمرية الأولى بالحصول على العلاج: الشباب أم العجائز؟. فى إيطاليا يتم انتقاء الحالات الأكثر قابليةً للحياة، وفى بريطانيا تحدث بوريس جونسون، رئيس الوزراء، عن سياسة مناعة القطيع، وهو يدرك أن الفئات الأكثر تعرضا للموت جراء ذلك ستكون كبار السن، لكنه تراجع تحت الضغط الشعبى.
(3)
الواقع يكون أحيانا قاسيا، الأمر يذكرنى بفيلم المخرج اليابانى «شوهى إيمامورا»، «رحلة ناراياما»، عن رواية «ناراياما»، للكاتب اليابانى «فوكازوا». تدور أحداثه فى إحدى قرى اليابان البدائية النائية شديدة الفقر فى القرن 19، حيث تعيش الأم
«أورن»، وهى فى عقدها السابع، ويفترض أن تكون قد ماتت، طبقا لطقوس القرية، لكنها فى صحة جيدة، ولا تعانى أى أمراض. التقاليد تقتضى أن يرحل العجائز إلى «الجبل المقدس ناراياما»، حيث ينتظرون الموت فى رضا ليقللوا العبء عن عائلاتهم، ويتركوا الفرصة للشباب والصغار، فالغذاء شحيح فى القرية. يرفض ابنها الوحيد ان يصحبها فى رحلة الموت، ولكنها تحثه على ذلك، ويخضع لحديثها، ويحملها على كتفيه ويمضى بها نحو قدرها.
الأمر يبدو مؤلمًا وموجعًا كلما استحضرته، لكن الصورة تعود إلى ذهن العالم المتمدن فى ظل رعب كورونا.
(4)
أوروبا تشيخ، وكذلك عدد من الدول المتقدمة، لكن عجائز هذه الدول لا يفكرون بطريقة «أورن» اليابانية، التى اختارت الموت لتمنح الحياة للجيل الجديد. عجائز اليوم يريدون التمتع بما اجتهدوا فى جمعه أثناء حياتهم. الصناعات والأنشطة التى تستهدف وتخاطب هذه الفئة تزداد أهمية مع الوقت، لم يعد العمر المديد وحده كافيا، بل حلم الشباب الدائم يراوغ هذه الفئة العمرية. كبار السن من حقهم التمتع بالحياة، ولكن أيضا يجب أن يتحملوا قدرًا من المسؤولية تجاه الأبناء والأحفاد، كما كان الحال منذ عقود.
(5)
مشكلة تزايد أعداد كبار السن فى الدول المتقدمة تستدعى النظر فى قيم هذه المجتمعات بعد انتهاء كارثة كورونا. الغرب الرأسمالى عليه أن يعيد الاعتبار إلى مفهوم الأسرة وحق المجتمع وأ الفرد لا يعيش لنفسه فقط. التفكير الغربى فى أن من حق الفرد الحصول على أكبر قدر من الحريات الشخصية وتحمل أقل قدر من المسؤولية ليس فى صالح هذه المجتمعات، وسيكون من أسباب فنائها، أما دول العالم الثالث فعليها أيضا أن تعيد التفكير فى قيمها المجتمعية، بداية من الاعتراف بالحقوق والحريات الفردية التى بدونها لا يوجد إبداع، وعليها أن تتعلم كيف تحافظ على ثروتها البشرية من الشباب، فهم أهم مواردها وعناصر قوتها، كما أن على النظم الحاكمة فى هذه الدول أن تدرك أنها بدون التحول إلى حكم ديمقراطى رشيد فإن مصيرها الفناء، ولو بعد حين.