بقلم : مي عزام
(1)
الكاتبة الأمريكية السوداء الشهيرة «تونى موريسون» الحائزة على جائزة نوبل للأدب عام 1993، اعتادت أن ترصد فى رواياتها مجتمعات الأمريكيين من أصول إفريقية والغربة التى يعيشها هؤلاء فى مجتمع أصبح وطنا لهم رغما عنهم، مجتمع يلفظهم ويشعرهم بأنهم غير مرحب بهم وأنهم غير جديرين بالانتماء إليه فقط لأن بشرتهم سوداء ولأن مقاييس الجمال تتمثل فى الدمية «باربى» فهذه المعايير تحكم كل مناحى الحياة. الأثر السلبى لذلك يعود على علاقة السود بالبيض والسود بعضهم ببعض والتى يشوبها كثير من التشوهات الإنسانية والشرور نتيجة الاضطهاد والعوز وعدم الأمان وتساؤلات حول الانتماء، فى رواية «العين الأكثر زرقة» والتى مر على نشرها نصف قرن، مازالت أحداثها قادرة على توضيح جذور مشكلة العنصرية التى يعانى منها المجتمع الأمريكى حتى الآن، استوقفتنى فيها عبارة: مادام من الصعب الإمساك بـ«لماذا» فيجب على المرء أن يلتجئ إلى «كيف»، يمكن تطبيق العبارة على الحاضر، المظاهرات وأحداث العنف فى مدن أمريكية احتجاجا على مقتل جورج فلويد وهو رجل أسود على يد شرطى أبيض، والحادث وثقه فيديو شاهده الملايين. يتساءل العالم مندهشا: لماذا لم تنته جذور العنصرية فى المجتمع الأمريكى وهى الدولة التى قامت على تشجيع الهجرة إليها والتنوع العرقى، وينقلنا سؤال لماذا إلى: كيف يمكن لهذه الدولة العظمى أن تتطهر من آفة العنصرية وتعالى جنس على آخر؟.
(2)
العام الماضى تم الاحتفال بمرور 400 عام على جلب العبيد الأفارقة إلى أمريكا، حيث رست فى أغسطس 1619 سفينة بريطانية على سواحل ولاية فرجينيا الأمريكية وعلى متنها قرابة عشرين عبدا من إفريقيا، لم يرغب الأفارقة فى السفر للعالم الجديد، بل تم اختطافهم بوحشية ونقلوا عنوة وتحت التهديد بسلاح البارود من موطنهم الأصلى إلى حيث بيعوا كعبيد وتم التعامل معهم بمهانة وعنف وكأنهم أقرب للحيوان منهم للإنسان!.
فى هذه المناسبة صرح ترامب بأن الاتجار بالبشر تصرف بربرى، لكن مجتمع السود فى أمريكا لم يصدقوا حديثه، لأنه فى مواقف أخرى أيد أفكارا تروج لتفوق السكان البيض على الآخرين كما أنه يدافع عن القومية الوطنية للبيض.
(3)
تمثال الحرية العملاق القابع عند مدخل ميناء نيويورك كان أول معلم يراه المهاجرون، كان إيقونة تجسد الحلم الأمريكى الذى يراود كل المهاجرين الباحثين عن الحرية والفرصة والثراء فى بلد الأحلام، هذا المعلم السياحى الهام يفقد بريقه نتيجة التصرفات العنصرية تجاه السود وخاصة من الشرطة الأمريكية، وكذلك غطرسة أمريكا التى تتبعها فى سياستها الخارجية والتى يعبر عنها صراحة ترامب.
فى الفيلم الوثائقى «أصبحت» (Becoming) الذى أذيع فى مارس الماضى، تروى ميشيل أوباما (56 سنة)، زوجة الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، عبر اللقاءات التى أجريت معها من خلال تنقلها بين 36 مدينة أمريكية للترويج لكتابها الذى يحمل نفس العنوان، الكثير من ذكريات طفولتها وصباها، وكيف عانت أثناء دراستها من التفرقة العنصرية وكيف حاول البعض أن يقلل من شأنها ويقف حائلا بينها وبين الالتحاق بجامعة برينستون، ولكنها لم تلتفت إلى المعوقات واستكملت دراستها فى هارفارد، وتحدثت عن علاقتها بأوباما ومساندتها له فى حملته الأولى فى 2008، واستقبال الإعلام لهما ومحاولة البعض النيل منهما بسبب العنصرية، حتى روجوا عنها وصف «الغاضبة» للتقليل من شعبيتها، وكيف أثر ذلك عليها حتى توقفت تماما عن الحديث بحرية وتلقائية خلال المؤتمرات الانتخابية، وأصبحت مقيدة بما يُكتب لها وتقرؤه من خلال شاشة التلقين، وتحدثت ميشيل عن تأثير الضغوط والظلم على سلوكك وروحك، وهو ما حدث معها طوال فترة تواجدها فى البيت الأبيض. وقالت إنها فى يوم تنصيب أوباما كأول رئيس أمريكى أسود سألت نفسها: هل الناس مستعدون
لذلك؟.
(4)
هل الناس مستعدون لمحو التمييز والعنصرية؟
هل الناس مستعدون لاحترام الاختلاف وقبول الآخر؟
العالم يعانى من سيولة أخلاقية شرقا وغربا، لا يتلفت أحد إليها لكنها تنذر بعواقب وخيمة، حضارة بلا أخلاق محكوم عليها بالزوال. والسؤال يجب أن يتحول من لماذا حدث؟ إلى كيف يمكن الخروج من المأزق؟