بيروت - جاكلين عقيقي
(1)
منذ سنوات جمعتنى جلسة ودية مع الكاتبة سكينة فؤاد، فى شقتها بالمعادى، حيث تعيش بمفردها بعد وفاة الزوج وسفر الابنة وسألتها: كيف تتعاملين مع الوحدة؟ أجابت: «أنا عندى قضية أعيش من أجلها، فأنا مشغولة بمصر، ولو كنت أعيش لنفسى فقط لمت منذ سنوات»، جالت هذه العبارة فى خاطرى أثناء زيارتى إحدى قريباتى المسنات (85 سنة) والتى فقدت زوجها منذ سنوات وتعيش وحيدة فى شقتها حيث يتردد عليها الأبناء والأحفاد، كنت أهنئها بعيد ميلادها ولكنها باغتتنى قائلة: «مللت الحياة وأتمنى الموت، فلا أحد يحتاجنى ولا أريد أن أكون عالة على أحد».
حين تأملت حياة كثيرين حولى من مختلف الأعمار والطبقات، وجدت أن الدور والهدف يجعلان لحياة الإنسان معنى ويبقيانه محبًّا للحياة رغم تقلباتها. المسؤولية التى يحاول البعض التملص منها وكأنها أكياس رمل تعرقل سيره، هى التى ترسخ قدميه على الأرض وتوازن مسيرته، وهو ما قد يفسر اهتمام أثرياء حول العالم، من الذين يتمتعون بالفطنة، بالتبرع بجزء كبير من ثرواتهم وتأسيس جمعيات خيرية تساعد المحتاجين، فالحياة بدون دور أو هدف أسمى من مجرد وجودك البيولوجى لا تؤدى لاستمرار شغفك بالحياة وشعورك بجدواك فى هذا العالم الفانى.
(2)
ما ينطبق على الأشخاص ينطبق على المجتمعات والدول الكبرى المتقدمة، المنتبهة لدورها ومكانتها، حيث تسعى دومًا للبحث عن قضية تدافع عنها، وتصبح من القيم التى تؤسس لها داخليا وتصدرها وتروج لها بل تتخذها أحيانا ذريعة للتدخل فى شؤون دول أخرى وحثها على تطبيقها على اعتبار أنها حامية تلك القيم والمدافعة عن هذه القضية، على سبيل المثال الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان أصبحت قضية ذات أولوية لدى الغرب بعد انتهاء الحرب الباردة وعصر الأيدولوجيا.
(3)
الوطن العربى كان لديه قضية مركزية، تجمع أقطاره على اختلاف مشاربهم، وهى الصراع العربى - الإسرائيلى، الجميع كان لديه يقين بأن المشروع الصهيونى مضاد للمشروع العربى، وأن إسرائيل شوكة فى خاصرة الوطن العربى تركها الاستعمار القديم لتبقى جرحا لا يندمل. بعد اتفاقية كامب ديفيد بدأ هذا اليقين يتزحزح، وتقزم الصراع ليصبح: صراع فلسطينى- إسرائيلى. نجحت إسرائيل فى كسر الحصار المفروض عليها من دول الطوق بمعاهدة كامب ديفيد، التى عزلت مصر وفقدت بسببها مكانتها العربية والإقليمية، ومنذ ذلك الحين طُبقت استراتيجية فرق تسد وبعدها الفوضى الخلاقة، لتفكيك دول المقاومة وتدمير الجيوش الوطنية فى العراق وسوريا وتحويل دفة الإرهاب العالمى إلى منطقة الشرق الأوسط وإلباسه رداء الإسلام، وزرع الفتنة الطائفية والمذهبية.
(4)
نظرا للحروب الأهلية التى عصفت بدول عربية، لم تعد القضية الفلسطينية أولوية، سبقتها قضايا أخرى وجودية. الصراع لم يعد مركزا فى بؤرة واحدة بل امتد بطول الجسد العربى المترهل من الشرق إلى الغرب إلى الجنوب. ولم يعد المشروع الصهيونى مؤرقًا لكثير من الدول العربية، بقدر المشروع الإيرانى أو التركى.
وتحول الصراع من عربى- إسرائيلى إلى صراع عربى- عربى. وفى خضم مآسى المنطقة استطاعت إسرائيل أن تبتلع مزيدا من الأرض الفلسطينية يوما بعد يوم، تحت أعين العرب المشغولين بقتل بعضهم البعض، وازدادت قوة الدولة العبرية على حساب ضعف الدول العربية. إسرائيل التى كانت مستعدة للتفاوض والتنازل عن الأرض مقابل السلام لتطبيع علاقتها مع الدول العربية لم تعد بحاجة لذلك، فالتطبيع حدث دون أى تنازل من جانبها، وأصبحت هناك أحاديث عن مشاريع عربية كبرى تضم إسرائيل كشريك.
(5)
لا أحد عاقلًا على هذه الأرض يرفض السلام، لكن السلام الحقيقى والاستقرار لن يتحققا إلا بين أطراف متساوية أو متقاربة من حيث القوى والنفوذ، وبالنسبة للرخاء المزعوم، فمصر بعد كامب ديفيد لم يتحقق لها منه شىء. صفقة القرن التى يتحدثون عنها لن تعود بالخير إلا على إسرائيل التى تمتلك سلاحا نوويا وتفوقا عسكريا وعلميا، ولن تكون بلاد العرب سوى أسواق مفتوحة لمنتجاتها، ولن يصبح الأمر سلامًا بل استسلامًا لتفوق الدولة العبرية.
(6)
خلاصة القول: محاولة العرب التملص من القضية المركزية التى كانت تجمعهم، دون أن يكون لديهم قضية وهدف أسمى من حلم الرخاء المزعوم والثراء المادى هو أكبر خطر عليهم. أى أمة ليس لها قضية عادلة تعيش من أجلها وتدافع عنها تعيش فى ركود كالموتى؛ لأنها ببساطة ليس لديها ما تقدمه للحياة.