بقلم : مي عزام
(1)
أسرة مثالية وناجحة بكل المقاييس، زوجة جميلة وثرية وناجحة فى عملها كطبيبة نفسية لها عيادتها الخاصة، وزوجها طبيب ناجح فى علاج سرطان الأطفال، والابن صحيح البدن والخلق ينتسب لأغلى وأرقى مدرسة خاصة فى نيويورك، والد الزوجة فاحش الثراء شديد التعلق بابنته وحفيده الوحيد. تبدو الأسرة سعيدة، تعيش فى دعة وترف، وينطبق عليها مقولة «ليس فى الإمكان أبدع مما كان»، هذه الأسرة هى محور أحداث المسلسل الأمريكى:
الخراب، التراجع أو الانهيار The Undoing
من بطولة النجمة الأسترالية «نيكول كيدمان»، والنجم الإنجليزى «هيو جرانت»، جسدت كيدمان دور الزوجة «جريس» التى تسيطر على مشاعرها مرتدية قناع البرود، كما أجاد جرانت فى دور الزوج «جوناثان» المحب والأب الودود، ما يبدو على السطح متماسكا وقويا ينهار بالتدريج، بعد مقتل الشابة الجميلة «إيلينا»، والتى كانت على علاقة عشق مع «جوناثان» الذى أصبح المتهم الأول فى القضية. القشرة البراقة خدشت ليظهر من تحتها التقيح المزمن، نكتشف أن الزوج اعتاد خيانة زوجته، وأن والدها كان خائنا لأمها الراحلة التى كانت تعانى فى صمت من أجل ابنتها الوحيدة، ولم يكونا يوما نموذجا للأسرة السعيدة كما كانت تظن «جريس»، نعرف أن ابنها الوحيد تواطأ مع أبيه، فلقد شاهده مع عشيقته والتزم الصمت ولم يبلغ والدته، حبا فى أبيه ورغبة منه ألا يسبب له ضررا، منظومة النجاح والسعادة التى كانت ترفل فيها الأسرة الأمريكية المترفة لم تكن سوى غطاء لفشل كبير، مع نهاية المسلسل ذى الحبكة الرائعة، أنصح القراء بمشاهدته، تستعيد جريس حياتها من جديد، ولكن هذه المرة نجاحها فى إنقاذ ابنها كان وفق معايير تتناسب مع قيمها الأخلاقية وقناعتها الذاتية وليس وفق إملاءات خارجية.
(2)
اليابان هى الدولة الأعلى مديونية فى العالم، ديونها تقترب من 240% من ناتجها المحلى، وهى بذلك تسبق اليونان والسودان ولبنان، ولكن هل يمكن أن نقارن اقتصادها القوى باقتصاد هذه الدول؟، إذن كيف استطاعت اليابان أن تحافظ على مركزها المتقدم اقتصاديا وهى تعانى فى نفس الوقت من أحد معايير الفشل الاقتصادى، وهو ارتفاع الدين العام؟ يرجع ذلك إلى أن 90% من ديون اليابان مملوكة لليابانيين وبالعملة المحلية، كما تمكنت اليابان من الحفاظ على فوائد السندات الحكومية المصدرة منخفضة للغاية، وكذلك الحفاظ على ثقة المستثمرين فى أنها لن تتخلف عن السداد، نتيجة الاحتياطى النقدى الضخم بالدولار. الحكومات اليابانية المتعاقبة فضلت خيار الدين عن فرض المزيد من الضرائب وخفض الإنفاق العام خوفا من المزيد من الانكماش والذى يعانى منه الاقتصاد اليابانى منذ سنوات. استطاعت اليابان، بفضل حسن إدارة حكوماتها وثقة المواطنين فيها وشعورهم بالمسؤولية تجاه بلدهم، أن تصنع لنفسها معيارا للنجاح الاقتصادى يخالف معايير صندوق النقد الدولى.
(3)
دول عدة تعتبر إسرائيل الدولة الأكثر نجاحا فى الشرق الأوسط، من حيث معايير القوة العسكرية والتفوق العلمى والتقنى، فى الواقع النجاح الإسرائيلى قائم على احتلال أراضى الغير والاستيلاء على حقوق الشعب الفلسطينى، وهى نفس معايير نجاح الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية السابقة: البريطانية والفرنسية والإسبانية وغيرها، نتيجة تفوق هذه الدول عسكريا، أعطت لنفسها الحق فى نهب ثروات المستعمرات وإفقار شعوبها وإذلالهم، وبعد تحرر المستعمرات وخروج المستعمر وجدت هذه الدول نفسها فى مأزق اقتصادى حقيقى، فهى غير قادرة على المنافسة الحقيقية بدون استغلال أو امتيازات. ولذا مازال الغرب يعمل بطريقة غير مباشرة، وفق المنظومة القديمة وعمادها استغلال دول العالم الثالث ونهب ثرواتها بتخريب هذه الدول بالحروب الأهلية والفتن وتمكين الفاسدين من حكم هذه البلاد ليكونوا دائما تحت سيطرة أولى أمرهم فى الغرب وطوع بنانهم، وأقرب مثال على ذلك ما حدث فى ليبيا الشقيقة ويحدث الآن فى موزمبيق بعد اكتشاف مخزون ضخم من الياقوت وحقول غاز عملاقة.
(4)
معايير النجاح التى يحاول الغرب تصديرها للعالم، ويسير عليها الأفراد والدول دون تفكير وتساؤل حول توافقها مع هوية كل شعب وقيم كل دولة، هى معايير خادعة ومضللة، والأفضل أن يضع كل دولة وشعب معايير نجاح تتوافق مع هويته وقيمه وعاداته حتى يكون تقييمه لحاله وأحواله واقعيا وليس مجرد تقليد أعمى.