بقلم : مي عزام
(1)
الحواس الخمس معروفة: السمع والبصر والشم والتذوق واللمس وكلها محدود بأفق، يتشارك معنا فيها كائنات لا سبيل لحصرها، بل قد يتميز بعضها عنا فى بعضها، لكن هناك هبة خص الله بها بنى آدم دون غيره من الكائنات وهى: الخيال... الذى يتعدى حدود الزمان والمكان.. يستدعى كل حواسك دون أى عوائق أو حدود، والخيال مرتبط بالذاكرة، وهى التى تحمل شفرة كينونتك وهويتك وبدونها تصبح صفحة بيضاء بلا ملامح، لا ماضٍ ولا مستقبل، وهو ما يحدث مع مرضى الزهايمر.
(2)
المجتمعات الإنسانية فى مراحل تطورها، اخترعت أدوات لتحسين الحياة، وأسلحة تدافع بها عن نفسها، هذه الأدوات كانت اختراعات مذهلة فى حينها، ميزت من امتلكها، وحققت له تفوقا على الآخرين، وأصبح صاحب حضارة مستحقا للسيادة. الآف السنين مرت على الإنسانية، تطورت فيها الحضارة الإنسانية بفضل العلم والخيال والإبداع ولكن ذاكرته ما زالت تحمل شفرة المجتمعات البدائية الأولى. الدول العظمى ما زالت تعيش بخيال وذاكرة الأسلاف، مستخدمة قوتها الغاشمة والاختراعات العلمية الحديثة لإخضاع المجتمعات الأقل قوة وتحضرا، تتعامل معها باستعلاء، تهينها وتستبيح ثرواتها وتنتهك حقوقها، وتتناسى أن التفوق الحضارى ليس ميراثا أو احتكارا لكن استحقاقا يذهب لمن يمتلك أدواته وقيمه وهذا يتغير بين حين وآخر على مدار التاريخ.
(3)
الذاكرة حاضرة عند المنتصر والمهزوم، الصراعات الجديدة تجر ذيول الخيبة، الماضى يجلس معنا على طاولة الطعام والمفاوضات، على سبيل المثال لا الحصر: الصين، كوريا الجنوبية واليابان، من أهم اقتصاديات دول الشرق الأقصى ولها علاقات متشابكة ومعقدة، فمازالت الصين وكوريا تحملان مشاعر سلبية تجاه اليابان، بسبب غزو الجيش اليابانى للبلدين والوحشية التى رافقت الاحتلال، وثقت السينما الصينية والكورية هذا، فى العديد من الأفلام الحديثة أتذكر منها:
The Flowers of War(2011)
The Battleship Island (2017)
السينما الصينية والكورية حرصت على أن تبقى ذاكرة الألم حية حتى لا تنسى الأجيال الجديدة جرائم الجنود اليابانيين فى حق بلادهم والمذلة التى صاحبت ذلك. العلاقة التى تبدو استراتيجية ومتينة بين اليابان والولايات المتحدة، تخفى تحتها شرارة القومية اليابانية الجريحة، الغبار النووى واستسلام الإمبراطور ما زالا عالقين فى ذاكرة شعب الساموراى، العلاقة المتوترة بين الصين وأمريكا ليست نتاج التنافس الاقتصادى فقط، الصين لم تشف من حرب الأفيون، التوتر التركى- اليونانى، ليس وليد الصراع على غاز شرق المتوسط، لكنه يعود لعصر محمد الفاتح وسقوط القسطنطينية ومعاهدة لوزان وانتهاء الإمبراطورية العثمانية، العلاقات الروسية الغربية تتعثر فوق أحجار سور برلين وسقوط الاتحاد السوفيتى، الصراعات والخلافات الآنية تحمل فى أحشائها بذور عفن الماضى وآثامه، رغم أن كل الدول التى ذكرتها، تجاوزت هزائمها وانتصب قامتها بعد الانكسار، وتنافس بقوة على المسرح الإقليمى والدولى.
(4)
هل هذا معناه أنه لا أمل فى تعافى الشعوب من آثار الحروب والصراعات القديمة؟ وهل مكتوب على الشعوب أن تظل سجينة ذكرياتها الحزينة وخيالها العابر للأزمنة؟، بالطبع لا، وهذا يختلف من شعب لآخر، هناك شعوب تستسلم للهزيمة الحضارية وتحاول التأقلم معها وتتماهى مع المنتصر وتتنازل عن هويتها لتحتمى بهويته، وهناك شعوب ترفض الهزيمة وتبعث من الرماد كطائر العنقاء، وهؤلاء يبحثون عن صيغة جديدة تشفى ندوب الماضى وجراحه.
(5)
أعتقد أن العلاج الشافى، هو التوصل إلى اتفاقيات تحترم الحقوق المغتصبة لتحقيق سلام حقيقى، وهذا لن يتحقق إلا بعد أن يقدم المعتدى اعتذارا مشفوعا بأفعال تؤكد عزمه على عدم تكرار أفعاله، كما فعلت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية حين اعتذرت لضحايا النازية وقدمت تعويضات ضخمة وغيرت مناهج التعليم. وهذا يطبق مع الكيان الصهيونى، لو أراد سلاما وتطبيعا مع العرب، عليه أن يقدم اعتذارا عما بدر منه فى حق الشعوب العربية وفى مقدمتها الشعب الفلسطينى، وتأسيس دولة فلسطين على حدود ما قبل 67 والاعتراف بحق العودة غير ذلك هراء. أقول لمن يريد أن يمحو الذاكرة العربية، ويغتصب حلم البعث والتحرر، لو نجحتم لن تحصلوا إلا على مرضى زهايمر لا نفع منهم ولا رجاء.