بقلم : مي عزام
(1)
حين كتب المفكر الأمريكى «فرانسيس فوكوياما» فى نهاية تسعينيات القرن الماضى، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتى، أطروحته حول نهاية التاريخ وانتصار الديمقراطية الليبرالية الغربية فى السياسة والرأسمالية والسوق الحرة فى الاقتصاد، كان يعتقد أنها الصيغة النهائية لتطور الحكومات البشرية فى جميع أنحاء العالم، مطمئنا إلى ما وصل إليه من نتائج معبرا عن رؤية أمريكية خالصة، مفادها تربعها على عرش العالم بلا منافس، حتى وصل ترامب للحكم فلم يكتف بتصوره بأن أمريكا بلا منافس ولكن دفع فى اتجاه أن تكون بلا شريك أو حليف بمفهوم الاستغناء عن العالم.
(2)
التاريخ يخبرنا أن بقاء الحال من المحال، وان الدول التى اطمأنت إلى تفوقها وهيمنتها تفقد تلك المزايا مع الوقت بسبب صدأ النظام وافتقاد المجتمع لجدية العمل وروح المنافسة، وتفاجأ هذه الدول بصعود دول أخرى تأخذ مكانها ومكانتها. على مدار التاريخ كان ذلك يحدث عقب حروب كبرى وصراعات طاحنة بين الدول، لكن هذه المرة الحرب مختلفة، لكن النتائج واحدة. فيروس كورونا كان المسمار الأخير الذى دق فى نعش النظام العالمى القائم والذى أثبت عدم صلاحيته للمستقبل. أظهرت جائحة كورونا بوضوح مناطق القوة والنفوذ الصاعدة فى مقابل تراجع مناطق أخرى.
(3)
تدخل أمريكا فى الحرب العالمية الثانية كان السبب فى انتصار الحلفاء وقلب دفة الأمور، تصاعد من حينها الدور الأمريكى على الساحة الدولية وورثت مناطق نفوذ إمبراطورية بريطانيا العظمى، كما هيمنت على المنظمات الاقتصادية الدولية وجعلت الدولار العملة الدولية بعد ربط أسعار النفط به. اليوم يتراجع الدور الأمريكى وسيتراجع معه تأثيرها على الاقتصاد العالمى، لم تقم أمريكا بدورها كدولة عظمى بل بدت الإدارة الأمريكية عاجزة عن الوفاء بالتزامات الوقاية الصحية تجاه شعبها.
كما أظهرت الجائحة عجز الاتحاد الأوروبى عن إدارة الأزمة بشكل مركزى، وترك الأمر مرهونا بإدارة حكومات الدول الأعضاء، فى حين استطاعت الحكومة الألمانية إدارة الموقف بجدية وفاعلية وجاهزية عجزت إيطاليا تماما، وأصبحت معايير الاتحاد الاوروبى وكلمة «المواطن الأوروبى» محل اختبار، فما فعلته دولة التشيك حين صادرت مساعدات صينية طبية كانت متجهة إلى إيطاليا، جعل الحديث عن التعاون الأوروبى والقيم الأوروبية شعارات هشة أمام الأزمات الحقيقية ومخاطر الوجود.
(4)
إيطاليا لن تنس خذلان دول من الاتحاد الأوروبى لها فى محنتها، ويمكن التنبؤ بخروجها من الاتحاد الأوروبى بحثا عن تحالفات جديدة أكثر فاعلية ومصداقية، ويمكن أن تجد فى الصين بديلا عن المنظمة الإقليمية وخاصة أن إيطاليا أول بلد فى مجموعة السبع تنضم إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية، ولقد وقعت مع الحكومة الصينية والإيطالية مذكرة تفاهم فى هذا الشأن فى مارس من العام الماضى، ولقد ساندت الصين إيطاليا فى محنتها مع فيروس كورونا الذى أودى بحياة آلاف الإيطاليين.
(5)
عدد من الدول الغربية ومنها أمريكا، شجعت العاملين فى المجال الصحى من دول العالم على السفر إليها، وقدمت تسهيلات فى حصولهم على تأشيرة عمل على أراضيها، لنقص الأطقم الطبية لديها، وهو ما يذكرنا بموقف أوروبا من المهاجرين بعد الحرب العالمية الثانية حين كانت تستقبل مرحبة الآلاف منهم لتشغيل مصانعها، «الحرب العالمية الكورونية» أثبتت أن الدول مهما كانت درجة تقدمها تحتاج إلى غيرها فى الملمات، وان سياسة التمييز والعنصرية مهلكة للبشر، وأعتقد أن الغرب سيعيد تشكيل أولوياته فى العقد القادم.
(6)
التحالف الاستراتيجى التاريخى بين اوروبا الغربية وأمريكا إلى زوال، وسيقوم على أنقاضه تحالفات جديدة ستنقسم أوروبا على إثرها من جديد، وهو ما عبر عنه بوتين فى خطابه أمام قمة منظمة شنغهاى الأخيرة،حيث ركز على ضرورة تعزيز دور المنظمة فى تشكيل النظام العالمى، وتم توقيع عدد من الاتفاقيات حول التعاون فى مجال وسائل الإعلام والتكنولوجيا المعلوماتية وخريطة طريق للأعمال المستقبلية، للفكاك من الهيمنة الأمريكية على هذه القطاعات.
(7)
السؤال المهم الآن: هل استعدت مصر للقادم؟ هل لدينا خطة استراتيجية لمستقبل ما بعد كورونا، ومعايير الانحياز والانخراط فى هذا النظام العالمى الجديد، ماذا سنقدم للعالم فى مقابل أن نكون شركاء وليس تابعين؟، أسئلة وجودية علينا أن نبدأ فى الإجابة عليها.