بقلم : مي عزام
(1)
حالة فزع وهلع عالمية من فيروس كورونا، كائن متناهى الصغر لكن تأثيره مزلزل، لماذا؟ لأننا لا نعرف متى وكيف يتسلل إلينا، فربما يصلك من أقرب المقربين إليك. هذا الفيروس الطفيلى يكسر كل دوائر الطمأنينة الإنسانية، إنه المجهول الذي يرافقه المرض والموت. هذا الضيف غير المرحب به أوقف مسيرة الحياة المعتادة في أكثر بلدان العالم تقدما وثراء، متحديا فلسفة العولمة وحرية التنقل، واستطاع تغيير التوقعات الاقتصادية وبدلا من التنبؤ بأرقام الأرباح المتوقعة في القطاعات الاقتصادية المختلفة للربع الأول من العام، يتم الآن تقدير الخسائر الفادحة المحتملة، أرقام النمو الاقتصادى التي يتشدق بها الاقتصاديون ويحكمون بها على نجاح دول وفشل أخرى، تبين أنها واهنة مثل بيت العنكبوت، متغير صغير غير متوقع قلب كل الموازين ووقف الجميع أمامه عاجزين.
(2)
لو كنت مثلى من المؤمنين بالله، أو كنت ملحدا لكنك مقتنع بأن للطبيعة إرادة وقوانين تعاقب من يخرقها، فستقف أمام أزمة «كورونا» باعتبارها محطة للتأمل ومراجعة ما يحدث على كوكبنا من خرق لقوانين الطبيعة وسنن الكون وسيمر في ذهنك سؤال: هل وباء «كورونا» اختبار للسلوك الإنسانى؟ هل هي رسالة من الله بأن ما وصلنا إليه من علم يمكن لمخلوق متناهى الصغر أن يربكه وأن الغرور الإنسانى يمكن أن يؤدى بنا إلى الجحيم؟.
عالمنا يشهد تطورا علميا مذهلا لكن للأسف لا يواكبه تطور في القيم والأخلاق والمبادئ الإنسانية التي تحكم النظام العالمى. العلم أداة يمكن أن تستخدم في تحرير شعوب كوكب الأرض كافة من الجوع والفاقة، كما يمكن أن يستخدم العلم في زيادة معاناة الدول الفقيرة واستغلال مواردها الطبيعية لصالح الأقوياء الأكثر علمًا وثراء، فيزداد الأثرياء ثراء والفقراء فقرا، وهو ما تحدث عنه العالم التشيكى الكندى «فكلاف سميل» في كتابه: «النمو: من الكائنات الحية الدقيقة إلى المدن الكبرى»، و«سميل» يربط في مؤلفاته بين العلم والتاريخ والحضارة والطبائع الإنسانية، وينتهى إلى آراء تختلف عن الكثير من الأطروحات المقدمة كحقائق، مثلا: ما يروج عن أن موارد الأرض لن تسد الزيادة المتوقعة في عدد السكان، خاصة في إفريقيا، يرد «سميل» بأن الحل ليس في خفض معدلات النمو السكانى ولكن معدلات استهلاك الطاقة والموارد إلى النصف في الدول المتقدمة الغنية، وهذا سيعيدها إلى مستوى ستينيات وسبعينات القرن الماضى ولم تكن الحياة حينها سيئة لكن لم يكن هناك هذا اللهاث على الاستهلاك. والمؤلف يتحدث عن ضرورة التوقف عن النمو في الدول التي تحقق نموا كافيا لخلق استقرار من حيث الوفيات والتغذية والتعليم، بدلاً من الدفع حتى يصبح النمو سرطانيًا ومدمّرًا بيئيًا. وهنا يستشهد بتعريف عالم الاقتصاد والفيلسوف الأمريكى الراحل «كينيث بولدينج» عن «اقتصاد رعاة البقر» و«اقتصاد رائد فضاء»، الأول هو فرص لا نهاية لها لاستهلاك الموارد، والثانى هو اعتراف بأن كوكب الأرض يشبه إلى حد كبير سفينة فضائية مغلقة نحتاج إلى إدارة مواردنا فيها بعناية.
يكمن التحدى، على حد قول «سميل»، في التحول من طريقة تفكير إلى أخرى، من يظن أن ما يتم تطبيقه في مكان يصلح للجميع مخطئ تمامًا، فمثلا ما تحتاجه نيجيريا هو المزيد من الغذاء والنمو، أما كندا والسويد فتحتاجان أقل من ذلك. في بعض الأماكن علينا أن نعزز ما يسميه الاقتصاديون تراجع النمو وفى أماكن أخرى علينا تعزيز النمو.. فكر مختلف لعالم أفضل.
(3)
أزمة كورونا أظهرت أن العالم عليه أن يفكر بطريقة مختلفة فيما يخص النمو الاقتصادى والحروب العسكرية والتجارية والصراعات الطائفية والتى يقف خلفها محاولات السيادة والهيمنة والتميز، وتقوم بها دول كبرى حتى تظل شعوبها أفضل حالًا من الشعوب الأخرى. «كورونا» أثبت أنه فيروس عادل للغاية، لا يفرق بين غنى وفقير ولا وزير وخفير ولا دولة متقدمة غنية وأخرى متخلفة فقيرة. العالم في هذه اللحظة هدفه الوحيد حفظ الحياة الإنسانية، فحق الحياة للجميع هو الأولى بالرعاية الآن، فهل نتذكر ذلك بعد زوال غمار المعركة مع كورونا؟ أم نعود لسيرتنا السابقة ويذهب بنا الطمع الإنسانى وشراهة الاستهلاك إلى كارثة متوقعة.