بقلم : مي عزام
(1)
«الجوكر» الفيلم الذى يعرض بنجاح كبير، انتظره الملايين بشغف، وسبقته دعاية مجانية من الشرطة الأمريكية حين رفعت حالة التأهب، ونشرت قوات سرية فى صالات السينما وأمام دور العرض، خوفا من تكرار ما حدث فى عام 2012 حين فتح الشاب «جيمس هولمز» النار على المتفرجين فى إحدى دور العرض فى مدينة أورورا الأمريكية، والتى كانت تعرض أحد أفلام باتمان «صحوة فارس الظلام»، وقتل 12 شخصا وأصاب 70، متقمصا شخصية «الجوكر» الشريرة عدو «باتمان» فى سلسلة القصص المصورة التى بدأت قبل 80 عامًا.
(2)
فيلم «الجوكر» يدور حول شخصية «آرثر فيلك» المريض النفسى ضعيف البنية الذى يعانى من تنمر الآخرين عليه والاستهزاء به، وإحساسه بأن لا أحد يشعر بوجوده، يعمل مهرجا لكسب العيش، لكن حلمه أن يكون «كوميديان» يقدم فقراته على المسارح أمام الجمهور. بناء على نصيحة طبيبته النفسية يحتفظ بكراسة يدون فيها مذكراته، ويستخدمها فى الوقت ذاته لتدوين مقاطع تصلح من وجهة نظره لعرضها على الجمهور لاستدرار ضحكاتهم وإسعادهم، أما ضحكاته الممتدة فهى ليست دليلا على البهجة لكنها حالة مرضية يعانى منها.
(3)
نحن أمام شخصية مريضة نفسيًا، احتُجز لفترة طويلة فى إحدى المصحات ومازال تحت العلاج، يعيش مع أمه فى شقة مظلمة قبيحة فى مبنى أشد قبحا، فى مدينة جوثام، حيث الفقراء والأغنياء كلاهما سيئ ومتنمر، أولى جرائمه كانت صدفة، قتل ثلاثة شبان من المنتمين لعالم «وول ستريت» أوسعوه ضربا دون مبرر، بعد إذاعة الخبر فى وسائل الإعلام وأن القاتل كان يصبغ وجهه كالمهرجين، خرج العامة فى احتجاجات واسعة مرتدين قناع المهرج، متخذين من القاتل ملهمًا فى معركتهم ضد أثرياء مدينتهم وأصحاب النفوذ والسلطة.
الجرائم التالية لم تكن صدفة، أدرك «آرثر» أنه أصبح مرئيا بعد جريمته الأولى، فقتل بدم بارد كل من صور له عقله المريض أنه آذاه، البداية أمه، ثم زميل له فى العمل، وأخيرا المذيع الشهير الذى كان قدوة له لكنه استخف به فى برنامجه وكأنه يقضى على الدوائر المؤثرة فيه.
(4)
جسّد الممثل الأمريكى «جواكين فينيكس» دور الجوكر بطريقة يعجز معها المتفرج أن يتصور له بديلا، خفض وزنه 25 كيلو ليلائم الدور، وليبدو هزال الجسد متناسقا مع هذيان العقل وهلاوس النفس، «تود فيليبس»، مخرج الفيلم الذى شارك فى كتابته، قدم فيلما أمريكيا ظلاميا عنيفا، فيه هجاء للرأسمالية التى تسحق الفقراء والعجزة، والتى أوقفت برنامج العلاج النفسى الذى يتلقاه «آرثر» لخفض ميزانية الرعاية الطبية، وبالتالى لم يعد بإمكانه الحصول على الدواء، وهو قريب مما فعله ترامب حين ألغى مشروع «أوباما كير» للتأمين الصحى، ويتعرض لقضية حيازة السلاح التى لم يجرؤ رئيس أمريكى على إصدار قانون بتنظيمها رغم سقوط عشرات الأبرياء، وهو ما حدث فى الفيلم حين قدم زميل مسدس لـ«آرثر» ليحمى نفسه من المتنمرين، فكان سهلا عليه قتل ثلاثة شبان دفعة واحدة، كما يسخر الفيلم من الإعلام المضلل الذى يصنع نجوما من العدم، ولا يأبه لمشاعر الناس مادام ذلك يزيد أعداد المشاهدة.
(5)
اتهم النقاد الفيلم بالتحريض على العنف بتمجيد شخصية الجوكر القاتل المجنون، وإعطائها مبررا للقتل، وهو ما أنكرته الشركة المنتجة للفيلم فى بيان وزعته على وسائل الإعلام. السينما فى النهاية مرآة المجتمع، والعالم يعيش لحظة جنون، مفتقدا المعايير الأخلاقية، كما ذكر الأمين العام للأمم المتحدة، الحروب تندلع هنا وهناك، يُقتل فيها الأبرياء وتُهدم البيوت وتُحرق الزراعات، كل ذلك من أجل مصالح وحفنة من الدولارات، مدبرو هذه الحروب أصحاب نفوذ وثروات وصناع قرارات، وهم ليسوا أقل شراً وجنوناً من شخصية «الجوكر» الذى يمثل المقابل لهم من العامة المقهورين، الذين قد يجد بعضهم أن الجوكر يمثلهم بل يصبح بطلهم وملهمهم، فأمثال هؤلاء يجدون أن مجتمعات الرأسمالية المتوحشة لا تلتفت إليهم ولا تراهم إلا حين يصبحون خارجين على القانون، رافعين شعار الجوكر: «أنا أقتل إذن أنا موجود».
شعار قد يدمر الإنسانية، وقد يجعلها تستيقظ من غيبوبتها.