بقلم - مي عزام
أقيم فى باريس، يوم الأحد الماضى، احتفالية كبيرة فى ذكرى مرور مائة عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى، حضرها عدد من قادة العالم، الرئيس الفرنسى والمستشارة الألمانية كانا أبطال الحدث، فهما يمثلان أعداء الأمس شركاء اليوم، عبر ماكرون عن ذلك، وميركل تقف بجواره، قائلا: «أوروبا تعيش فى سلام منذ 73 عاما لأن ألمانيا وفرنسا تريدان السلام»، أكد الزعيمان فى كلمتيهما أهمية نبذ الانطواء والعنف والهيمنة، وكأنهما يشيران بطرف خفى إلى الرئيس الأمريكى وقراراته التى انتصر فيها لمصلحة بلاده على حساب حلفائه الأوروبيين، وهو ما دفع الرئيس الفرنسى، فى وقت سابق، للحديث عن إنشاء جيش أوروبى لحماية القارة من روسيا والصين وأيضا من أمريكا، وعلق ترامب على الاقتراح بطريقته: «ادفعوا اللى عليكو الأول»، ومن قبل صرح ترامب، أكثر من مرة، بأن على الدول الأوروبية الكبرى أن تدفع حصصا عادلة فى ميزانية حلف الناتو، حيث تتحمل أمريكا العبء الأكبر فيها.
(2)
قبل ما يقرب من 130 عاما، نشر الكاتب الأسكتلندى، روبرت لويس ستيفنسون، روايته الشهيرة: دكتور جيكل ومستر هايد، التى تتحدث عن د. جيكل، رجل العلم، صاحب المكانة الاجتماعية والذى يعيش وفق ضوابط العرف والتقاليد، ولكن نفسه تهفو للخروج عن هذا القالب، بشخصية أخرى تخرق كل القواعد وتبتذل القيم وتحطم كل القيود، فخلقها من عدم، ليصبح الطيب والقبيح فى آن واحد، حتى تسيد الشرس وانتهى الحال بفنائه.
حين تابعت مراسم الاحتفالية على الفضائيات، استوقفتنى لقطة تجمع القادة الحاضرين تحت قوس النصر فى باريس، ذكرنى الرئيس الأمريكى ترامب بمستر هايد، فهو زعيم ينتهك الاتفاقيات والعهود، ويخرج عن المألوف فى تصريحاته الصادمة وتعليقاته البعيدة عن اللياقة، ولا يلتزم بقواعد السياسة الدولية والدبلوماسية، باختصار يفعل ما يحلو له.
(3)
ترامب هو الوجه الآخر للجنتلمان الغربى، الذى يعرف كيف يصوغ كلماته بعناية قبل أن يؤذى خصمه ويرتدى قفازا قبل أن يشرع فى قتله الذى خطط له بدقة، كما يحاول بحذق ومهارة أن يخفى آثار جريمته، أما مستر هايد فهو عفوى إلى حد الوحشية، غير منضبط، يقتل حين يغضب ويترك يديه ملوثة بدم ضحيته ويجاهر بجريمته.. ولا تسيطر عليه إلا فكرة واحدة: «الحصول على ما يريد فى أى وقت وبأى طريقة».
كلاهما: دكتور جيكل ومستر هايد يرغبان فى نفس الأشياء، ولكن الاختلاف بينهما يكون فى الطريقة التى يحصل بها كل منهما على مراده.
(4)
يأتى الاحتفال بالذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى، والعالم يواجه حروب وصراعات فى أماكن كثيرة ومتفرقة،وتطل علينا مخاوف حقيقية من اشتعال فتيل حرب عالمية ثالثة،هذه المرة لن تكون أوروبا ساحتها، بل ستتجه ناحية الشرق، حيث تتشكل موازين قوى جديدة، وتنذر الحرب الباردة بين أمريكا والصين بانتهاء حقبة الهيمنة الأمريكية على العالم كقطب أوحد.
الدور الأوروبى أصبح محدود بسبب سياسة التبعية لأمريكا والتى التزمت بها أوروبا طويلا، لم يعد توسيع النفوذ والهيمنة يشغل بال الأوروبيين، كما كان الأمر من قبل، يشغلهم الآن توفير الأمن والاستقرار وتحسين الاقتصاد، قادة أوروبا اكتفوا من الحروب ولا يريدون أن تكون قارتهم ساحة حرب أو ينتقل إليها الإرهاب ولا أن تصبح ملاذا للمهاجرين واللاجئين.. إنهم يبحثون عن مصلحتهم لكن بأسلوب أكثر أناقة ولباقة وثقاقة من أسلوب راعى البقر الأمريكى.
(5)
أزمة العالم الحقيقية هى أزمة أخلاقية فى المقام الأول، الثورة العلمية والتكنولوجية المذهلة والمتسارعة، لم يواكبها مفاهيم أخلاقية كابحة للهيمنة واستغلال الشعوب وتراكم الثروات فى يد قلة من سكان العالم، العمل من أجل خير الإنسان والتخفيف من آلامه والحفاظ على كوكب الأرض ليست سوى أمنيات شعوب ومنظمات المجتمع المدنى، مثلها مثل رغبة شعوب العالم الثالث فى العدل والمساواة والحرية والديمقراطية، أمنيات مشروعة تجهضها المصالح التى تتحكم فى قرارات الدول وتوجه سياستها.
يحدث هذا لأن قادة العالم لا يخرجون عن ثنائية د. جيكل ومستر هايد... وجهان لعملة واحدة
نقلا عن المصري اليوم القاهرية