توقيت القاهرة المحلي 09:04:39 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الانتماء باللسان.. درس الملك لير

  مصر اليوم -

الانتماء باللسان درس الملك لير

بقلم : مي عزام

فى كتاب «حصاد السنين»، كتب المفكر الراحل د. زكى نجيب محمود هذه العبارة: «الانتماء هو تضحية المواطن لوطنه تضحية تتفاوت درجاتها بدءاً من تقديم شىء قليل من ماله فى سبيل الجهود الذاتية للتعمير والإصلاح.. انظر إلى هذه العبارة مدققاً، تجدها قد جعلت مبدأ (الانتماء) أساسا أولياً، تتولد عنه نتيجة، هى وجوب التضحية من المواطن لوطنه، وعن هذه النتيجة تتولد نتيجة فرعية، هى تفاوت الصور التى تجىء عليها التضحية كماً وكيفاً. وهذا التسلسل الفكرى قائم كله على معرفة مفردات لغوية، وهو بأكمله متوقف على معنى المبدأ الذى جاء فى صدر العملية الفكرية، وأعنى مبدأ الانتماء، فإذا تبين- وكثيراً جداً ما يتبين- أن صاحب هذه العبارة إذا ما سُئل عن تعريف (الانتماء) الذى جعل أساساً لتفكيره، عجز عن الجواب، مادام اللفظ الذى جعلناه سنداً للعملية الفكرية هو بهذه الأهمية كلها وهذه الخطورة كلها، فلا مناص لنا من دقة تعريفه تعريفاً يتساوى فى دقته مع تعريفنا للمفاهيم الرياضية كالمثلث والمربع».

وهنا انبرى الدكتور زكى نجيب محمود كعادته فى نحت لفظة «الانتماء»، ليصل بنا إلى جذرها المشتق من كلمة «نماء»، وهنا ربط مفكرنا الكبير بين الانتماء والنماء، فلا انتماء حيث لا نماء، أنت لا تنتمى لمكان أو علاقة لا تنمو فيها وتتحقق وتشعر بكرامتك وتقديرك لذاتك، وهكذا فإن الانتماء فعل تفاعلى وليس شعوراً فطرياً يولد مع الإنسان كما يظن البعض.

(2)

نظرية التحفيز، التى وضعها أستاذ الاقتصاد السلوكى الأمريكى «ريتشارد ثالر»، تقوم على فكرة أن الناس يمكن توجيههم لاتخاذ قرارات أفضل من خلال سياسات بسيطة وغير ملحوظة، عشرات الحكومات حول العالم اتخذت إجراءات وسياسات لتوجيه سلوكيات شعوبها فى وجهة معينة، وتشير الأبحاث إلى أن الناس يرحبون بهذه المحفزات مادامت تتفق مع قيمهم ومصالحهم، وترتبط أيضاً نسبة تأييد هذه الأساليب بمستوى الثقة فى الحكومة. يمكن للبعض أن يطلق على هذا التأييد «انتماء» لو أرادوا، فالمواطن الذى يشعر بالثقة فى حكومته ويجد أنها تعمل لصالحه لا يجد غضاضة فى تنفيذ ما تمليه عليه من سياسات يجدها تصب فى صالحه فى النهاية.. فالحافز ضرورى للمشاركة.

(3)

فى مسرحية «الملك لير»، أراد العبقرى ويليام شكسبير أن يقدم لنا أمثولة تكسر النمطية المعهودة التى يتم فيها تفضيل الإطراء على التفانى الحقيقى، فليس كل مَن يمدحك مخلصاً، وليس كل مَن يضن عليك بمشاعره كارهاً، حين أراد الملك لير التقاعد فى شيخوخته، قرر أن يقسم مملكته بين بناته الثلاث، وكان اختباره لهن حول مقدار حب كل منهن له ليتمكن من تقسيم الميراث بينهن على قدر هذا الحب. ابنتاه الكبريان (جونيريل وريجان) بالغا فى وصف حبهما له، ولكن ابنته الصغرى (كورديليا) رفضت المشاركة فى مزاد الحب الظاهرى، واكتفت بالقول إنها تحبه كما يجب للابنة أن تحب أباها، لم تعجب الإجابة الملك العجوز، فاستبعد ابنته الصغرى من الميراث وقسم مملكته بين ابنتيه الكبريين، لكن الأيام أثبتت له أن «كورديليا» كانت الأكثر حباً وإخلاصاً، فقد تعرض الملك المعتزل لغدر الوريثتين.

(4)

مصر، الآن، تعيش مأساة الملك لير، فهى تصنف شعبها طبقاً لقدرة أفراده على اللغو الظاهرى، واستعراضات النفاق الرخيص وترديد كلمات المجاملة وحديث الانتماء للبلد بالشعارات باعتبار أن الكلام هو التضحية والفداء والواجب المقدس تجاه الوطن، ويتبارى هؤلاء فى تقديم نماذج نمطية عفا عليها الزمن ليدللوا بها على الانتماء للوطن، فهذا إعلامى يتباهى بالتبرع على الهواء وكأن الأمر فقرة إعلانية ضمن برنامجه، وهذه سيدة تتبرع بمصاغها فتكتب عنها الصحف ويستقبلها الرئيس باعتبارها المواطنة المثالية التى يجب على غيرها تقليدها، حيث يبدو الهدف واضحاً لحث الناس على التبرع لصندوق تحيا مصر، فى رأيى أن هذا النوع من التبرعات لا يجب أن يكون هدفاً لدولة، لأن اقتصاد أى بلد مستقر لا يقوم على التبرعات ولكن على مشاركة كل مواطن فى العمل والإبداع والابتكار، ورفع مشاعر الانتماء والوطنية لا يكون بترديد الأغانى الوطنية، ولكن بتعميق حالة الارتباط العملى، وتوثيق «العقد الاجتماعى والسياسى والاقتصادى» بين المواطن والدولة، تحت مظلة الدستور ومنظومة الحقوق والواجبات التى تدعمها وتصونها القوانين والمحاكم ومؤسسات المحاسبة والمراقبة لكل المواطنين بلا تفرقة بين حاكم ومحكوم، وهذا باختصار شديد ما يمكن تسميته «الانتماء».

نقلًا عن المصري اليوم القاهرية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الانتماء باللسان درس الملك لير الانتماء باللسان درس الملك لير



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله
  مصر اليوم - إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله

GMT 08:31 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 15:58 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

نيقولا معوّض في تجربة سينمائية جديدة بالروسي
  مصر اليوم - نيقولا معوّض في تجربة سينمائية جديدة بالروسي

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 01:15 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ألعاب يمكن تحميلها الآن على هاتف الآيفون مجانا

GMT 06:21 2019 السبت ,19 كانون الثاني / يناير

نوبة قلبية تقتل "الحصان وصاحبته" في آن واحد

GMT 22:33 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد ممدوح يوجه الشكر للجامعة الألمانية عبر "انستغرام"

GMT 16:44 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمن المركزي يحبط هجومًا انتحاريًا على كمين في "العريش"

GMT 03:36 2018 الجمعة ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

"طرق التجارة في الجزيرة العربية" يضيف 16 قطعة من الإمارات

GMT 01:03 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة عمل العيش السوري او فاهيتاس بسهولة فى البيت

GMT 08:12 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

ليدي غاغا تُظهر أناقتها خلال العرض الأول لفيلمها

GMT 16:10 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

جماهير روما تهاجم إدارة النادي بعد ضربة ميلان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon