بقلم : مي عزام
(1)
كم مرة فكرت أن عليك أن تتراجع عن فعل طلبه شخص، لكنك تذكرت أن له دينا فى عنقك، وأنك ملتزم نحوه برد الجميل؟ لست وحدك فى ذلك، ملايين البشر حول العالم يشعرون بنفس الالتزام، فهم معرضون لتأثير قانون التبادل، الذى ذكره عالم النفس، د. روبرت سيالدينى، فى كتابه المهم: «التأثير.. علم نفس الإقناع»، والذى ينص على أنه يجب أن ندفع بلطف مقابل ما قدمه شخص آخر لنا، وهذا القانون يرافقه إحساس بالالتزام، وهو متجذر فى الثقافة الإنسانية، ومنتشر بشكل واسع، فلا يوجد مجتمع بشرى لا يخضع لهذا القانون.
(2)
فكرة المديونية آلية تأقلم فريدة فى النوع البشرى، سمحت له بتقسيم العمل، وتبادل الأشكال المتنوعة من الأغراض والمهارات والخدمات، وإيجاد شبكة من اعتماد الواحد على الآخر، مما يجمع الأفراد مع بعضهم فى مجتمعات فاعلة. هذا الالتزام المستقبلى، الذى يتشارك فيه الجميع ويؤمنون به، كان له أثر كبير على تطور المجتمع الإنسانى لأنه يعنى أن شخصا ما يمكن أن يعطى شيئا لشخص آخر وهو متأكد من أن هذا الشىء لن يضيع، مما جلب فوائد جمة على تطوير المجتمعات الإنسانية.
فى كل ثقافات العالم ستجد دوما أمثالا ومأثورات تدعو إلى رد الجميل بمثله أو أحسن منه، وقانون التبادل سلاح فعال جدا، بوصفه وسيلة لكسب مطاوعة الآخرين، وهو شىء طيب فى العلاقات الإنسانية الطبيعية والسوية، لكن للأسف يمكن أن يستخدم لاستغلالك. العديد من الشركات التجارية تستخدمه كحيلة لترويج منتجاتها حين تقدم عينات مجانية للناس: عطور، أطعمة، ومنظفات.. إلخ، حصول شخص على هذه العينة واستخدامها يولد عنده شعورا بالالتزام تجاه المنتج لأنه يعتبره هدية، ويسعى لردها بشراء المنتج، وهو المطلوب!!.
(3)
يعطينا المؤلف فى كتابه أمثلة كثيرة على قوة هذا القانون، منها دهشة المحللين السياسيين من قدرة الرئيس الأمريكى (ليندون جونسون) على تمرير عدد كبير من القوانين عبر الكونجرس فى بداية ولايته، وجد أن سبب ذلك التصويت الإيجابى فى الكونجرس يرجع إلى القدر الكبير من المعروف الذى قدمه «جونسون» للمشرعين الآخرين فى السنوات العديدة التى كان فيها فى مجلسى العموم والشيوخ. لذا استطاع وهو فى سدة الرئاسة أن يصدر عددا استثنائيا من القوانين فى مدة وجيزة بالاعتماد على خدماته السابقة.
مثال آخر تابعته شخصيا، كاتب صحفى، رحل عن دنيانا، كان يتخذ من عموده اليومى فى إحدى الصحف المعروفة وسيلة لمديونية عدد كبير من الفنانين والكتاب ورجال الدولة والمشاهير، كان يكيل لهم المديح عن أعمالهم وإنجازاتهم، حتى ولو كانت لا تستحق، هذا الكاتب، متواضع الموهبة، كان واسع الثراء والاتصالات، مدعوا فى كل ندوة أو مؤتمر، مستمتعا بأعلى درجات الحفاوة والكرم من أصحاب الدعوة، فجميع من مدحهم كانوا يشعرون أن عليهم دينا تجاهه، ويجب أن يردوا له الجميل.
(4)
أثناء عملى، شاهدت مثالين لهذه المديونية الخادعة، أولهما لمحرر كانت وسيلته للترقى باكو شوكولاتة مستوردة، يضعه على مكتب رئيسه كل صباح، هدية رمزية صغيرة لا يمكن رفضها، لكنها رسخت عند رئيسه شعورا بالالتزام تجاهه وإحساسا بالمديونية، وبدلا من أن يهاديه بمثلها أو يطالبه بالتوقف، كان يجامله فى العمل، فيمنحه مساحة أكبر فى النشر وفرص السفر الخارجية، وترقى هذا المحرر، منعدم الكفاءة، وسط ذهول زملائه.
قوة قانون التبادل مذهلة، فرغم أنه من الركائز الإنسانية المهمة، فإنه أحيانا يستغل من جانب نفوس وضيعة، فيكون لهم ضحايا لا يفرقون بين رد الجميل المحدود بحدوده والانصياع السلبى، الذى يفقد فيه الإنسان قدرته على إدراك الصواب من الخطأ، وهنا أذكر المثال الثانى، محررة شابة، كان زوجها يسبها بأفظع الألفاظ أمام الجميع، بررت قبولها هذا الوضع المشين بقولها: «هو عصبى، لكنه كريم جدا معى، هداياه الثمينة طوق فى عنقى».
كثيرون منا يقعون فريسة لأشخاص يستغلون قانون التبادل، رد الجميل له حدود وشروط، فكر فيها قبل أن تتخطاها أو تقع فى دائرة الاستغلال.