بقلم : مي عزام
(1)
أنعى إليكم وفاة زاهد فى السلطة فى زمن تتكالب الأغلبية عليها.
أنعى إليكم وفاة من صدق وعده فى زمن كثر فيه خونة العهود.
أنعى إليكم وفاة المشير عبدالرحمن سوار الذهب.
(2)
أفلام الجرائم الغامضة تجذب المشاهدين بأحداثها المتلاحقة السريعة التى يتخللها العنف والإثارة وتترك للخيال العنان، على عكس أفلام السيرة الذاتية للعظماء؛ حيث تلتزم بالواقع الضيق مهما كان رحبا. السينما تعكس الواقع. ما يحدث على الشاشة حدث بالفعل مع الاختفاء الغامض للكاتب الصحفى السعودى جمال خاشقجى إثر دخوله قنصلية بلاده فى إسطنبول. الخبر تحول للحدث الأكثر إثارة وجدلا فى 2018. مصيره ظل محل شائعات، حتى صدر بيان للنائب العام السعودى الذى أكد مقتله على يد عدد من أبناء جلدته فى مقر القنصلية، ولكنه لم يجِب عن مصير جثته.
مقتل خاشقجى سيكون له تبعات ومن أهمها التأثير على صورة الأمير محمد بن سلمان، ولى العهد، كقائد إصلاحى وتقدمى. وأعتقد أنه سيعاد ترتيب البيت السعودى. كان هناك خبر وفاة آخر، لم يهتمّ به الإعلام العربى الاهتمام المستحق رغم عظمة المتوفى، وهو المشير عبدالرحمن سوار الذهب الذى وافته المنية فى المستشفى العسكرى فى الرياض، ونقل بطائرة خاصة ليدفن فى المدينة المنورة، بناءً على وصيته. هذا الرجل نموذج نادر فى عالمنا العربى، لم يتمسك بالسلطة، حين أتته طواعية، ولم يتراجع عن وعده بتسليمها لأول حكومة منتخبة بعد عام من رئاسته للمجلس العسكرى الذى حكم السودان بعد الانقلاب على الرئيس السودانى الأسبق جعفر نميرى عام 1985.
فى تصريحات للمشير سوار الذهب قال إن القرار الذى اتخذه عندما كان قائدا للجيش، بإقصاء الرئيس السودانى نميرى، فى الرابع من إبريل 1985، توصل إليه بعد أن تأكد له كوزير للدفاع وقائد عام للقوات المسلحة، بأن نميرى بات لا يملك شعبية، ولأجل حقن دماء السودانيين قام بما أملاه عليه ضميره دون رغبة فى الاستئثار بالسلطة أو الحصول على غنيمة ولكن حتى لا تدخل السودان فى دائرة الفوضى، بعد توليه الحكم باعتباره رئيس المجلس العسكرى الحاكم للبلاد وعد بتسليم السلطة لأول حكومة منتخبة بعد المدة التى حددتها الأحزاب والقوى السودانية الفاعلة بعام، بعدها اعتزل المشير المناصب والسياسة وترأس منظمة الدعوة الإسلامية كأمين عام لمجلس الأمناء فى السودان.
(3)
هل يمكن أن نفهم زهد سوار الذهب دون العودة إلى جذروه، لنتأمل كيف نما هذا الغرس الطيب الذى أثمر هذا الاستغناء؟!
ينتمى المشير إلى أسرة سوار الذهب التى تمتد جذورها إلى العباس بن عبدالمطلب، عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جده الشيخ محمد عيسى سوار الذهب خرج من مكة إلى شمال أفريقيا حتى الأندلس، ثم عاد إلى مصر، واستقر فيها بعض الوقت فى أسوان، ثم انتقل إلى شمال السودان فى دنقلا، حيث أسس مسجده ومعهده الدينى وكرس حياته لنشر القرآن وتعاليمه منذ ذلك التاريخ أى قبل 500 سنة تقريبا، وأسرته تعمل فى نشر القرآن، حيث استقر بها المكان، وكذلك كان والده. والطبيعى أن يحن المشير إلى مواصلة مسيرة أسلافه فى الدعوة.
(4)
التقيت بالمشير سوار الذهب فى مؤتمر الأزهر للسلام، المنعقد فى إبريل عام 2017، وكان لى حديث قصير معه حول آفاق العلاقة بين مصر والسودان، حينذاك كان هناك بعض الإعلاميين المصريين يهاجمون السودان لأنها منعت صحفيين مصريين من دخول أراضيها دون تأشيرة، وكان سوار الذهب يجد أن مثل هذه المعالجات الإعلامية تسىء للعلاقة التاريخية بين البلدين الشقيقين ومبدأ المعاملة بالمثل، شعرت حينها بحكمة هذا الرجل وتعقله من حسن اختياره لكلماته بدقة وتأنٍ، ولاحظت أنه لا يفرط فى الحديث كغيره من الرجال الذين كانوا يوما فى دائرة الضوء، حديثه كله عن المستقبل لا يرد فيه ذكرا لماضٍ كان جزءا منه.
«يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِى إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً».
نقلًا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع