بقلم - مي عزام
(1)
الرئيس الفرنسى السابق فرانسوا أولاند أصدر فى إبريل الماضى كتابه «دروس القوة»، يتحدث فيه عن تجربته فى الحكم، وخصص فصلًا لأخطائه، عنونه «أنا نادم على»، ذكر فيه ندمه عن عدم التدخل عسكريًا فى سوريا، فى 1 سبتمبر 2013، حيث كان كل شىء جاهزًا؛ القوات الأمريكية والفرنسية والبريطانية كانت على وشك ضرب عدة مواقع عسكرية للأسد، لكن فى 31 أغسطس، أجبر نواب بريطانيون رئيس وزرائهم ديفيد كاميرون على التراجع رافضين التدخل. منح ذلك الرئيس الأمريكى أوباما «المتردد أصلًا» الوقت لمراجعة الكونجرس. كتب أولاند: «كان لتملص الولايات المتحدة، كما توقعت، تأثير كارثى على الصراع فى سوريا فقد استغلت روسيا الوضع لدخول اللعبة بكامل ثقلها». أولاند يبدو واثقاً بأنه: «لو تدخلت فرنسا لكانت غيرت مسار الأحداث، فرنسا كانت جاهزة، وكان فى سلطتى تقرير ذلك التدخل بفضل مؤسساتنا، لكن نكوص حلفائنا منعنا من المضى قدماً».
(2)
لا يمكن قراءة ما يحدث فى فرنسا الآن، بعيدا عن تخليها عن دورها، واستسلامها، منذ رئاسة ساركوزى لدور التابع، فرنسا فقدت بوصلتها، وهذا لم ينحصر فقط فى قصر الإليزيه، لكن كان له صدى على الحياة السياسية ودور الأحزاب وقدرة مؤسسات الدولة على المراجعة والتصويب. الصورة تجلت بوضوح فى الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، حين صوّت الفرنسيون لماكرون، ليس تقديرا له، لكن لخيبة أملهم فى أحزابهم التى تحولت لهياكل هشة لا تأثير لها عند صناع القرار أو الشارع، حيث تفرغ زعماؤها للتنافس على المناصب والسعى وراء المكاسب.
(3)
مظاهرات السترات الصفراء لم تصدم العالم فقط، ولكن الفرنسيين- وبخاصة النخبة منهم- فهذه الحركة غير المسيسة كانت بمثابة المرآة التى أظهرت وجه النخبة القبيح وإخفاقها فى صياغة مسار يلائم فرنسا وقيمها، وخيبة أمل الفرنسيين فى الأحزاب من اليمين إلى اليسار، فهؤلاء القادمون من الأطراف أعلنوا التمرد على المركز الذى خان قيم الثورة الفرنسية أمام متطلبات النيوليبرالية.
(4)
صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية انفردت بنشر نداء لمجموعة من السترات الصفراء، أطلقت على نفسها اسم «المتحدثين باسم السترات الصفراء الأحرار»، أبرز مطالبهم: «النظر فى سياسة الضرائب، وتنظيم استفتاءات منتظمة حول التوجهات الاجتماعية والمجتمعية للبلاد، واعتماد النسبية فى التصويت خلال الانتخابات البرلمانية حتى يتم تمثيل السكان بطريقة أفضل فى البرلمان». إذن، الأمر لا يقتصر على زيادة سعر المحروقات، بل تخلّى الدولة عن منظومة الحماية التى كانت تحقق قدرًا من العدالة الاجتماعية، فمواطنو الطبقة الوسطى والفقيرة يشعرون أن دولتهم تخلت عنهم، وهو ما جعل جريدة «لومانيتيه» اليسارية تختار مانشيت: «العدالة الاجتماعية هى الإجابة الوحيدة الممكنة»، كما طلب «ألكسيس بريزيه»، مدير تحرير جريدة «لوفيجارو» الفرنسية فى مقاله: «إلى ضرورة الإسراع بإرساء مصالحة وطنية، بسبب المواجهة التى برزت بين فرنسا المدن الكبرى وفرنسا الأطراف، تلك المواجهة أحدثت شرخًا كبيرًا، ويجب الإسراع بمعالجتها».
(5)
الرئيس الفرنسى أعلن أن زيادة الضريبة على المحروقات هدفها حماية البيئة، وتصب فى صالح الطاقة النظيفة التى تشجع حكومته المواطنين على استخدامها، وهو إصلاح جذرى ملتزم به، ولكن السؤال المطروح فى الشارع الفرنسى: لماذا تدفع الطبقة الوسطى والفقيرة فاتورة أى إصلاح، فى الوقت الذى رفع فيه ماكرون الضريبة على المحروقات خفض الضريبة التصاعدية على الدخل! وكان من الممكن أن يدفع الأغنياء الفاتورة، ولن تتأثر معيشتهم على عكس ما يحدث الآن.
(6)
الإعلام الفرنسى موقفه واضح، يرفض أعمال العنف والتخريب التى رافقت المظاهرات، وأدت لخسائر فادحة، ولكن فى نفس الوقت يتحدث عن ضرورة البحث عن مخرج من الأزمة، ويحث الرئيس وحكومته على ذلك قبل مظاهرة السبت القادم. مظاهرات السترات الصفراء كانت جرس إنذار بأن فرنسا فى خطر، وربما لهذا السبب أظهرت استطلاعات الرأى أن أكثر من 70% من الشعب الفرنسى يؤيدون مطالب أصحاب السترات الصفراء. فرنسا فقدت مسارها الصحيح، ولا تناسبها النيوليبرالية التى يطبقها ماكرون بتسرع وازدراء واضح للطبقات الوسطى والدنيا والفقيرة.
(7)
أعتقد أن أصحاب السترات الصفراء سيكونون سببًا فى مراجعة عدد كبير من زعماء العالم لمدى صلاحية تطبيق النيوليبرالية فى بلدانهم، فتطبيقها يكون دومًا على حساب الفقراء لصالح الأغنياء. هذه الصحوة تؤكد أن المستقبل للشعوب، والحرية لمن يستحقها.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع