بقلم : مي عزام
(1)
وصف المفكر الفرنسى روجيه جارودى الولايات المتحدة الأمريكية بأنها: شركة للإنتاج يجمعها بصفة أساسية هدف واحد: الربح والمال، تعتبر كل هوية شخصية، ثقافية، فكرية أو دينية، شيئا خاصا، فرديا للغاية، لا يتداخل مع سير النظام.
(2)
هذا التعريف المختصر المفيد يمنحنا القدرة على توقع خطوات أمريكا كدولة لا تعمل إلا وفق معيار الربح المادى، يمكن بسهولة أن تتخلى عن وعودها وتنقض اتفاقياتها الدولية لو تعارض الأمر مع هذا المعيار وبغض النظر عن نتائج ذلك على الجميع حتى حلفائها، بدا هذا واضحا للغاية فى اجتماع الدول السبع الصناعية الكبرى فى كندا مؤخرا.
ولقد أعرب دونالد تاسك، رئيس المجلس الأوروبى، عن هذه الإشكالية حين حذر من أن موقف ترامب بشأن حرية التجارة واتفاقية المناخ والملف النووى الإيرانى يشكل خطرا حقيقيا، وأكد على أن النظام الدولى المرتكز على حكم القانون يواجه مخاطر، والأغرب هو أن الذى يشكل هذا الخطر ليس المشتبه فيهم المعتادون لكن مهندس (هذا النظام) وداعمه الرئيسى وهو أمريكا.
(3)
بالعودة إلى الوراء قليلا، نجد الرئيس الأمريكى الأسبق بوش الأب علق على قمة ماستريخت فى أوائل التسعينيات، التى مهدت لتأسيس الاتحاد الأوروبى، قائلا: «تعطى أوروبا الأكثر وحدة للولايات المتحدة شريكا أكثر فاعلية، قادرا على تحمل أكبر المسؤوليات»، وحذر بوش المجتمعين حينذاك من اتخاذ أى سياسات حمائية، ما حذر منه بوش سابقا ينفذه ترامب حاليا بإجراءات حمائية ضد أوروبا واليابان والصين وكندا والمكسيك، فما كان فى التسعينيات فى مصلحة أمريكا العظمى أصبح الآن ضدها!! الدول الصناعية الكبرى لم تصمت على الانقلاب الأمريكى بل هددت بإجراءات مماثلة. ترامب يريد إيقاف الإغراق الصينى لأسواق بلاده، فى حين أن أمريكا تحتكر، على سبيل المثال، تجارة الصويا وتصدر ملايين الأطنان من الكُسب كعلف للحيوانات يعتمد غذاء أوروبا من اللحوم على ذلك، وحتى يبقى الحال على ما هو عليه نجحت فى غلق مصنعين فى فرنسا وإيطاليا لمنع الإنتاج الصناعى للبروتين باستخدام عملية صناعية خاصة بتكرير البترول ابتكرها عالم فرنسى.
(4)
أمريكا (الدولة العميقة) تحاول أن تتملص من كل تعهداتها السابقة وكذلك النظام العالمى الذى أرست قواعده لأنه لم يعد فى صالحها بعد بزوغ الصين كقوة اقتصادية ومنافستها بقوة على قمة الاقتصاد العالمى، انتخاب ترامب وتصدره المشهد ليس صدفة، فهو أداة الدولة العميقة لإحداث هذا الانقلاب، ولم يكن باستطاعة أى رئيس أمريكى آخر أن يقوم بدور المهرج كما يفعل ترامب، فليس هناك عاقل يمكن أن يقبل القيام بهذا الدور، لكنه دور يلائم شخصية ترامب الاستعراضية ووعوده أثناء حملته الانتخابية، وعادة وعود الحملات الانتخابية لا تنفذ إلا فى حالة كونها معبرة عن اتجاه الدولة والمؤسسات الأمريكية وتكتلات أصحاب المصالح بها، وأنا أعتقد أن بعد انتهاء ترامب من مهمته سيتم الاستغناء عنه.
أمريكا استخدمت ببراعة خدعة الخنازير المعروفة، وبعد أن يتم لها ما تريد ستزيح ترامب عن المشهد العالمى، وهناك اتهامات جاهزة تجيز إقالته وحينذاك سيتنفس العالم الصعداء دون أن ينتبه أن الأمور باقية على ما هى عليه، وستروج آلة الإعلام الأمريكية العملاقة لصورة أمريكا زعيمة العالم الحر ومنقذة الديمقراطية.
(5)
النظام العالمى التى أسسته أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية وأجبرت العالم كله على الانصياع له يترنح بسببها، ويذكرنى هذا برواية فرانكشتين، النظام العالمى لم يعد صالحا، ليس لأن أمريكا قررت ذلك، لكن لأنه نظام فاسد وغير عادل، لم يضع فى حسابه دول العالم الثالث التى تكافح من أجل تنمية حقيقية يتم إجهاضها على يد المؤسسات المالية الدولية التى أسستها أمريكا لتنفيذ سياستها وإحكام سيطرتها وهيمنتها على العالم. نحن فى مفترق طرق، مصر مثل باقى دول العالم، الكل يبحث عن بديل لنظام أوشك على الانهيار، لكن هذه المرة يجب أن يكون لدول العالم جميعا وكذلك شعوبها رأى وموقف، على العالم كله أن يتحد من أجل الوصول إلى نظام عالمى ذى وجه إنسانى، يقوم على المشاركة وليس المغالبة والتسلط.
المشكلة الحقيقية هى فى التوافق على المفاهيم التى يجب أن تسود المستقبل والنظام الاقتصادى الأكثر نفعاً لعموم البشر حول العالم، ووضع معايير لأولويات الحياة فى عالم تتسارع فيه وتيرة الاستهلاك إلى حد الإبادة... والحديث موصول.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع