بقلم : عبد المنعم سعيد
هناك حزمة من الأحداث الكبرى التي ألمت بدول عربية، خلال الفترة القصيرة الماضية، وكلها تمس الأمن القومي لهذه الدول، من ناحية، والأمن القومي العربي الجماعي، من ناحية أخرى. آخر هذه الأحداث ما كان قبل أسبوع من اجتياح الجيش التركي لمنطقة شمال سوريا إيذاناً بشن عمليات عسكرية ضد المواطنين الأكراد في الدولة السورية. لم يكن الغزو مفاجئاً لأحد، فقد جرى التحضير له من خلال تفاهم أميركي - تركي تنسحب بمقتضاه الولايات المتحدة عسكرياً، تاركة حلفاءها من «قوات سوريا الديمقراطية» في العراء، ويعلن الطرفان الأميركي والتركي عن إنشاء منطقة آمنة. ولم تفلح تصريحات الرئيس الأميركي حول استمراره في تأييد الأكراد في التغطية على هذا الاتفاق، حتى ولو جرى الحديث عن التزامات تركية بعدم المساس بالمدنيين، أو العدوان على الأكراد السوريين، والحفاظ على 32 ألفاً من «الداعشيين» وأسرهم، ومنعهم من ممارسة الإرهاب. قبل ذلك وبفترة غير بعيدة، قامت إيران بالاعتداء المباشر على المواقع النفطية السعودية بهجوم كبير بالصواريخ والطائرات المسيرة. ولم يكن ذلك هو الاعتداء الأول، وإنما جاء لاحقاً لاعتداءات سابقة جرت على ميناء الفجيرة الإماراتي، وعلى حاملات النفط في قلب الخليج، وعلى مطار أبها السعودي. ولم تشكل الإعلانات الحوثية عن المسؤولية براءة للدولة الإيرانية من استخدامها لهذه الأسلحة بالأصالة أو بالوكالة، فوفقاً لكل البراهين والأدلة المتاحة، فإن إيران كانت وراء هذه الهجمات مباشرة أو من خلال المال والسلاح والتدريب. ورغم إعلان وزير الخارجية الأميركي، بومبيو، عن أن التصرفات الإيرانية كانت «إعلاناً للحرب»، وما سبقه من تدمير طائرة مسيرة أميركية في المياه الدولية، فإن الرد الأميركي على السلوك الإيراني أنه لم يكن جارياً في الأراضي الأميركية! ومواكباً لذلك كله، وبعد سنوات من التفاوض، ودعوة مراكز للبحوث والتقدير، فيما يتعلق بالتأثيرات السلبية لسد النهضة الإثيوبي على دول المجرى والمصب، أي السودان ومصر، فإن إثيوبيا عادت مرة أخرى إلى تجاهل الحقوق التاريخية المصرية في مياه نهر النيل الدولي. التعليق الأميركي على المواقف الإثيوبية جاءَ باهتاً وغير معبر عن المصالح الحيوية المصرية؛ ولكنه كان مشجعاً منذ فترة للمواقف الإسرائيلية بضم القدس والجولان والتوسع بالمستوطنات داخل الضفة الغربية من خلال نقل السفارة الأميركية إلى القدس.
خلاصة كل ما سبق، وغيره كثير، أن القوى الإقليمية جميعها - إيران وتركيا وإسرائيل - حاولت بشكل أو بآخر استغلال حالة نقصان المناعة التي ألمت بالإقليم العربي منذ نشوب ما سمي «الربيع العربي»، وراحت كل واحدة منها في التهام الأرض أو النفوذ أو المصالح على حساب الدول العربية أو كل ذلك معاً. والأمر هكذا، فإنه يحتاج مراجعة كاملة للاستراتيجيات العربية التي قامت على وجود علاقات «خاصة» مع الولايات المتحدة تكفل تحقيق التوازن مع القوى الإقليمية المعادية، أو تشكل جسراً معها أو ردعاً لطموحاتها الإقليمية. في الواقع العملي ثبت أن ذلك ليس صحيحاً، وأن واشنطن تحت إدارة دونالد ترمب، تعيش حالة من الانسحاب العالمي، والخوف من التورط في حروب «لا نهاية لها»، كما قال الرئيس الأميركي، وبعد أن كانت الولايات المتحدة قوة رادعة أصبحت تتجه إلى القوة الرخوة التي تتخلى عن حلفائها عند كل واقعة. كما قامت هذه الاستراتيجيات في الوقت نفسه على وجود علاقات خاصة بسبب النفط مع القوى الدولية الأخرى مثل اليابان وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، ولكن ممارسات هؤلاء خلال الأزمات الماضية لم ترتفع إلى مستوى الأحداث، واكتفت بمحاولات غير مؤثرة للوساطة والعمل الدبلوماسي. وظهر أن هذه القوى مشغولة بانتظار خروج الولايات المتحدة من حالتها، فضلاً عن مواجهة مشكلاتها الخاصة بالحذر من الصين أو «بريكست» ومستقبل الاتحاد الأوروبي. أخيراً فقد كان هناك اعتقاد في وجود قوة خاصة للقانون الدولي وهيئات الأمم المتحدة من مجلس الأمن إلى الجمعية العامة لحسم النزاعات مع دول الجوار الإقليمي. واقع الأمر مرة أخرى أثبت أن هذه القوة قليلة الحيلة في مواجهة قوى عدوانية مصممة على استغلال الحالة الراهنة للنظام الدولي، وما فيه من وهن، والنظام الإقليمي، وما فيه من ضعف، لاستخدام القوة العسكرية في الابتزاز والحصول على امتيازات لا يستحقونها.
هذه الأوضاع غير المواتية تأتي في وقت تنشغل فيه الدول العربية بالإصلاح الجذري لجبهاتها الداخلية، وشحذ همتها في اتجاه التقدم؛ ومن ثم يكون من الصعب الدخول في مواجهات وتوترات تخل من تحقيق هذا الهدف. المعادلة هكذا بين الداخل والخارج صعبة، ولكنها ليست مستحيلة إذا ما كان هناك اقتناع بعدم انتظار «جودو» الأميركي الذي لن يأتي في المدى القريب على الأقل. والحقيقة أن هناك خيارات مفتوحة يقع في مقدمتها أن مراجعة الاستراتيجيات القائمة تكون في إطار عربي يعتمد على ما تم من قبل من تحالف رباعي، ومناورات مشتركة، كان آخرها «الموج الأحمر» الذي جرى بين دول عربية في إطار البحر الأحمر. المراجعة أيضاً تقتضي التعرف على طبيعة النظام العالمي المعاصر الذي انتهت فيه تماماً الولايات المتحدة، باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في العالم وقائدة «العولمة» والموجه الرئيسي للتطورات التكنولوجية الكبرى في الدنيا كلها. ومن دون الدخول في كثير من التفاصيل التي سبق لنا في هذا المقام تناولها، فإن العالم الآن له طبيعة ثلاثية تضم الولايات المتحدة والصين وروسيا؛ وإذا كانت الأولى تنسحب، والثانية محافظة في إقدامها إلى الشرق الأوسط، فإن الثالثة تقع الآن في قلبه، ولها علاقات وثيقة بكافة الأطراف. وبقي أن روسيا هي حالياً التي يقع معها مفاتيح المشرق العربي والعلاقات المتشعبة الخاصة بالأزمة السورية وامتداداتها العراقية. ولذلك فربما تكون زيارة فلاديمير بوتين للسعودية بادرة انفتاح على فرص جديدة.
ولعل المقترح الروسي بعقد مؤتمر للأمن الإقليمي يفتح باباً واسعاً للحركة العربية، حينما ينضم الأمن إلى التنمية في حزمة واحدة. تفاصيل ذلك ليست من النوعية التي يتم تداولها في الصحف، وإنما يجري بحثها في أطر سياسية ودبلوماسية تقوم أولوياتها على تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط ليس فقط بمنع التدخل في شؤون دول المنطقة، والحفاظ على تكاملها الإقليمي، وإنما يُضاف إلى ذلك وقف سباق التسلح، ومكافحة الإرهاب. نقطة البداية هي إدانة التدخلات العسكرية التركية والإيرانية في الإقليم مع إقامة علاقات قائمة، ليس فقط على عدم الاعتداء، وإنما على حسن الجوار، وتبادل المنافع، ووقف الحملات الإعلامية، ووقف إطلاق النار على كل الجبهات التي تطلق النيران فيها، سواء في اليمن أو في سوريا. الأمر كله يحتاج قمة عربية سياسية يكون فيها التداول على كيف يكون للعرب استراتيجية جديدة وجادة؟