بقلم : د. عبد المنعم سعيد
السياسة الدولية نوعان: خشنة وناعمة. الأولى متعلقة بالجغرافيا السياسية، والأمور الإستراتيجية المرتبطة ببقاء الدول وسلامة أراضيها وتكاملها الإقليمى وفيها قدر محتمل من استخدام القوة المسلحة؛ والثانية لا تستخدم فيها القوة المسلحة، وأدواتها فى الأساس اقتصادية ترتبط بالتجارة والتكنولوجيا والأيولوجية وأشكال أخرى من الأدوات غير الدموية. فى الواقع العملى فإن الخشن والناعم فى سياسات العالم ليسا منفصلين انفصالا تاما، وفى أكثر الأوقات يتكاملان، وأحيانا فإن الناعم يكون أول محطات الخشن. وعند دراسة أسباب الحرب العالمية الثانية فإن الأمر لم يقتصر على ما رتبته معاهدة فرساى من نتائج ضد ألمانيا؛ ولا سلوكيات ألمانيا ذاتها فى عهد هتلر عندما كسرت قواعد فرساى الواحدة بعد الأخري، وضمت النمسا، وغزت تشيكوسلوفاكيا، فكانت الطامة الكبرى مع غزو بولندا. فلا يوجد دارس واحد لم يضف إلى قائمة الأسباب الأزمة المالية العالمية التى بدأت عام 1929؛ والحروب التجارية التى جعلت اليابان تغزو الصين بحثا عن أسواق واسعة.
الآن تغير الحديث العالمي، ولم تعد «العولمة» هى السلعة العالمية الرائجة، ولسبب أو آخر فإن لا أحد يسمع كثيرا الآن عن منظمة التجارة العالمية التى وضعت الكوكب كله على طريق كونه سوقا واحدة. دونالد ترامب بطريقته الفجة وضع تاريخا جديدا «ضد العولمة» عندما أعلن عن فرض جمارك على واردات الصلب والألومنيوم؛ وجمارك أخرى تخفض الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة بقيمة 60 مليار دولار، فردت الصين بوضع قائمة للسلع الأمريكية تخرج من السوق الصينية بقيمة 50 مليار دولار، بعدها بدأ ترامب يبحث عن قائمة صينية أخرى قيمتها 100 مليار دولار. التفاعلات كلها تشير إلى ميكانيكا الفعل ورد الفعل فى اتجاه متصاعد التصعيد، والحديث الشائع بات حول الحرب الباردة الجديدة، ومقدماتها حروب تجارية. ولكن ما يجرى بين الصين والولايات المتحدة ليس إلا قمة جبل الثلج، ولا أحد يعرف ما الذى يختفى من الجبل تحت الماء؛ فما يجرى على القمة له تأثيراته السلبية على اقتصاديات العالم الكبرى الأخرى فى أوروبا وشمال أمريكا (كندا والولايات المتحدة والمكسيك) واستراليا وشرق آسيا حيث الاقتصاديات الآسيوية الكبرى من اليابان إلى كوريا الجنوبية إلى أعضاء تجمع «آسيان»، وكلها تجمع ما بين أساليب الاقتصاد اليابانى المتوجه نحو التصدير، وأسلوب الاقتصاد الصينى الذى يجمع بين العمل الكثير قليل التكلفة ولكنه عالى العائد والإنتاجية.
لا أحد يعرف بالطبع إلى أين سوف تنتهى مغامرة ترامب، وهو على أى حال لا يبدأ حربا تجارية فقط ولكنه يهدد كوريا الشمالية بالحرب النووية، ثم تنقلب معه الحال بمقابلة رئيسها بعد وساطة صينية، بينما يعلن عن نيته فى الانسحاب من سوريا دون تشاور مع أحد. وربما لم يشهد التاريخ المعاصر قدرا من الضوضاء السياسية التى يثيرها رئيس الولايات المتحدة بقدر ما يثيره الآن الرئيس الحالي. ولأن لا أحد يعلم نهاية الضوضاء، ولا يمكن التنبؤ بمستقبل العلاقات الدولية فى وجود أو مع اختفاء دونالد ترامب، فإن دول العالم المختلفة لا بد أن تضع لنفسها خططا للتعامل مع عالم أكثر ضيقا مما كان حادثا عندما كانت «العولمة» هى الفكرة الأساسية فى حركة التفاعلات الدولية. ورغم أن الصين تتبنى هذا المفهوم الآن وبحماس كبير، فإن هذا لا يكفى فى وقت تتخذ فيه الولايات المتحدة ما تتخذه من مواقف وربما سوف يتوقف الأمر على الإجراءات التى سوف تتخذها أوروبا، والدور الذى سوف تفعله ألمانيا وفرنسا خاصة فى ضبط تدهور العلاقات الدولية، سواء فى إطار الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن، أو الحرب التجارية بين واشنطن وبكين.
وسط هذا الخضم، ماذا تفعل مصر إزاء هذه الحالة؛ ولا يكفى هنا ملاحظة أن التجارة الخارجية المصرية لا تشكل الدور الذى تأخذه فى دول أخرى أكثر «عولمة» كنسبة من الناتج المحلى الإجمالي، ومن ثم فإن الأمر يبدو وكأنه لا يخصنا. ولكن ذلك لا يأخذ فى الاعتبار أن حالتنا الآن ليست ما سوف تكون فى المستقبل القريب، عندما تزهر ثمار الكثير من الخطط التنموية المصرية. وهناك بالفعل مؤشرات الآن عن زيادة الصادرات، وتراجع العجز فى الميزان التجاري، وارتفاع فى معدلات النمو تبشر بان لدينا ما نقدمه للعالم خاصة مع توافر فرص واعدة للطاقة تدفع دفعا الصناعة المصرية إلى مستويات أعلى مما هى عليه. موقف الدول التى واجهت ما نواجهه الآن كان دائما يقوم على العمل فى اتجاهين: الأول تعزيز السوق الداخلية بتشجيع الاستثمارات وإعطاء فرص أكبر للمبادرة الفردية فى السوق المحلية؛ والثانى فتح أسواق خارجية قريبة تنمو فى إطار من التكامل الإقليمي. كلا التوجهين يمكن السير فيهما خاصة أن السوق المصرية تتسع بفعل الزيادة السكانية، وزيادة معدل النمو الاقتصادي؛ أما السوق الإقليمية فربما نحتاج إلى زيارة أخرى لعلاقات مصر الإقليمية.
المفتاح هنا يقع فى إطار العلاقات المصرية ـ السعودية خاصة أن المملكة هى الأخرى تقف فى مواجهة ذات التهديد القادم من الحرب الباردة والحروب التجارية. ورغم بعض الإشارات الإيجابية لزيارة الأمير محمد بن سلمان للولايات المتحدة؛ إلا أن الواضح من الزيارة أن تصورات ترامب للمملكة تقوم على استنزاف مواردها المالية، وهو ما عبر عنه ترامب بطريقة غريبة عندما راح يعدد أمام كاميرات التليفزيون ما عقده من صفقات مع الرياض. وأيا ما كانت نتائج الزيارة من الزوايا الإستراتيجية، والموقف المشترك تجاه إيران؛ فإنه لا يوجد حافز لدى السعودية لتقبل حالة من الركود الاقتصادى العالمى نتيجة سياسات ترامب تؤدى إلى تراجع كبير فى أسعار النفط، بعد أن ارتفعت خلال الشهور الأخيرة لما تجاوز 66 دولارا للبرميل. مصر والسعودية ومعهما الإمارات والبحرين، أى دول التحالف الرباعي، ومعها الأردن، يمكنها تكوين سوق مشتركة تخفف من وطأة تطورات التجارة الدولية السلبية وتعبر بها إما إلى مرحلة ما بعد ترامب، أو لمواجهة ظروف صعبة وخشنة فى العلاقات الدولية.
نقلاً عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع