بقلم : عبد المنعم سعيد
الاعتراف واجب للقارئ الكريم بأن الكتابة أسبوعياً لـ«الشرق الأوسط» فيها نوع من الإرهاق، لأن الكاتب يعتقد جازماً أن للقارئ حقاً في الحصول على وجبة متنوعة من الموضوعات التي تخص الشرق الأوسط والعالم كله ممن كان تخصصه الأكاديمي والفكري هو العالم كله. الصين على أهميتها وعلى سبيل المثال لا تحصل على حقها الواجب من الاهتمام والفحص والمتابعة؛ وروسيا على ما باتت تلعبه من أدوار مركبة في منطقتنا من استخدام القوة العسكرية إلى بناء المفاعلات النووية فيه الكثير الذي هو أكثر من الواجب. أوروبا جرى اختصارها خلال الشهور الأخيرة في موضوع «بريكست» ومصير الاتحاد الأوروبي بعده؛ ولم يبقَ شيء كثير الآن سوى انتظار نتائج الانتخابات البرلمانية في 12 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، ومتابعة الشخصية المثيرة ذات الصفات «الترمبية» لرئيس الوزراء بوريس جونسون بشعره وملابسه وألفاظه المثيرة. وبالتأكيد فإن البرازيل، وزعيمها بولسينارو، التي ظهرت نجماً على الساحة السعودية مؤخراً توحي بمدركات جديدة في المملكة تنوع وتعدد الاختيارات أينما كانت في الشرق أو الغرب. المعضلة هنا أنه وسط ذلك كله، فإن الولايات المتحدة تخطف الأضواء كل أسبوع بأمر مثير، ولا يعود ذلك بالضرورة إلى أهمية ومركز الولايات المتحدة كدولة عظمى لم تعد العظمى الوحيدة بكل ما يعنيه ذلك من تبعات ونتائج، وإنما لأن السياسة الأميركية لها إثارتها الخاصة؛ والذي جعلها أكثر إثارة وجود الرئيس دونالد ترمب في البيت الأبيض؛ ليس فقط كرئيس الدولة الأميركية، وإنما بوصفه نجماً يحرص على هذه النجومية بما يحيط به من أحداث، وما يطلقه هو من تغريدات يحرص عليها على مدار الساعة. وخلال الأسبوع الماضي وحده، أحاط بالرئيس ترمب حدثان مهمان؛ الأول مقتل زعيم تنظيم «داعش» الإرهابي أبو بكر البغدادي؛ والثاني بدء إجراءات إقامة الادعاء على الرئيس تمهيداً لمحاكمته. لا يوجد لدى رئيس آخر في العالم مثل هذه الأحداث تجمع بين العمليات العسكرية، والمحاكمة القضائية؛ وحتى لو كان ذلك موجوداً لما جرت إذاعته وبتفاصيل دقيقة تخرج إلى الجمهور العالمي يوماً بعد يوم، وساعة تلو أخرى.
وإذا كان السؤال الأول في حدث قتل البغدادي بعد تفاصيل العملية العسكرية وما جرى فيها من مقتل الرجل وزوجتيه وأولاده، وحدث قبلها من معلومات وتجهيزات تسربت وتسللت من دول وحركات ومتابعات حتى جرى اصطياد زعيم الإرهابيين وقائد «الخلافة الإسلامية» ذات يوم؛ فإن السؤال البديهي هو هل يعد مقتل الرجل نهاية للإرهاب أو حتى لـ«داعش» الإرهابية؟ والإجابة البديهية كانت دائماً هي النفي، فاستئصال الأصولية والتطرف والإرهاب يحتاج لما هو أكثر من مقتل رجل وانتحار زوجتيه. محاكمة الرئيس ربما كانت الأكثر إثارة، والأهم أنها الأكثر أهمية لأن تحديد مصير رئيس أهم دولة في العالم حتى الآن ليس من الأمور البسيطة، ولأن الموضوع على ما فيه من أسرار كثيرة سوف تتفتق عنه أسرار أكثر. إقامة الادعاء تقوم على اتهام الرئيس بأنه خالف الدستور والقسم الرئاسي عندما طلب من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينكسي أن يساعده في البحث عن أدلة تدين رجل الأعمال هانتر بايدن نجل المرشح الرئاسي الديمقراطي ونائب الرئيس السابق في عهد باراك أوباما؛ جو بايدن، فيما يقوم به من معاملات في أوكرانيا. ما هو إجرامي في الموضوع أن اتصالات الرئيس تضمنت ربطاً شرطياً بين المساعدات الأميركية العسكرية (400 مليون دولار) وقيام الرئيس الأوكراني بهذه المهمة؛ ويبدو أن أوكرانيا لم يكن لديها اختيارات كثيرة للتعامل مع الأمر. ولكن أحداً لا يعرف حتى الآن ما الذي كان يفعله نجل نائب الرئيس السابق في أوكرانيا، وقيل أيضاً في الصين، وجعل الرئيس ترمب يصل إلى هذه الدرجة من الحماس لاستخدام ورقة جنائية في المعركة الانتخابية. ورغم أن الطريق لانتخابات 2020 لا يزال طويلاً، فإن هذا الطريق الطويل هو ما بات يميز السياسة الأميركية أكثر من غيرها ويجعلها تخطف الأضواء من غيرها من الدول. ومن الممكن أن تكون الولايات المتحدة قوة عظمى في طريق التراجع، وربما كانت هذه هي رغبة الرئيس دونالد ترمب؛ فهو يرى في القيادة الأميركية للعالم ليس حفاظاً على «القيم الأميركية» وذيوعها، أو ذات عائد للقوة الاقتصادية الأميركية من أسواق وموارد مادية وبشرية، ولا حتى للحفاظ على الأمن الأميركي، وإنما يراها استنزافاً للقوة الأميركية سواء من الأعداء أو الأصدقاء والحلفاء، وفتحاً لحدودها لأشكال مختلفة من الغزو البشري والقيم الغريبة. فالحقيقة أن ترمب لا يرى في القيم والأمن والسمعة أكثر من سلع لا بد أن يكون لها عائد ملموس؛ عداً ونقداً. وربما كان هو الرئيس الوحيد في تاريخ الولايات المتحدة الذي يحرص في كل زيارة له لدولة أخرى أن يعدّ كم من الملايين أو المليارات حصلها من الدولة التي زارها.
محاكمة ترمب كما عرفنا من قبل تبدأ بلائحة الاتهامات لإقامة الادعاء من قبل مجلس النواب الذي سوف يقدمها إلى مجلس الشيوخ الذي يقضي فيها بالإدانة بأغلبية الثلثين؛ وما عدا ذلك تكون البراءة كأن شيئاً لم يكن؛ وحدث ذلك من قبل مع الرئيس بيل كلينتون في قضية مونيكا لوينسكي الحريفة بالكذب والجنس. هذه المرة فإن القضية تقع والحياة السياسية الأميركية على الطريق إلى الانتخابات الرئاسية، وعلى المحك السؤال عما إذا كان ستكون لترمب فترة رئاسية أخرى أم لا، استطلاعات الرأي العام الأميركية، 38 استطلاعاً، تفيد بأن 51 في المائة من المصوتين يؤيدون مجلس النواب في إقامة الادعاء، بينما يعارض ذلك 42 في المائة؛ في حين 47.6 في المائة يؤيدون إقامة الادعاء والإطاحة بترمب في مجلس الشيوخ مقابل 43.4 في المائة يعارضون ذلك. ولكن ربما لسوء حظ الديمقراطيين فإن الانتخابات الأميركية لا تتم من خلال الانتخابات التي تضم كل الشعب الأميركي، وإنما من خلال المجمع الانتخابي الذي يعكس الحقيقة الفيدرالية للولايات المتحدة ويعطي للولايات الأميركية أصواتاً خاصة تعكس ثقلها السكاني ويحصل فيها المرشح على كل أصوات الولاية في حالة حصوله على الأغلبية النسبية فيها. من هنا فإن الاستطلاعات الكلية لا تعبر عن الواقع السياسي، وإنما الاستطلاعات الخاصة بالولايات المختلفة هي التي تعبر عن الموقف الانتخابي للرئيس الذي كما نعرف أنه فاز في الانتخابات الماضية ليس بالأغلبية الشعبية وإنما بأغلبية المجمع عندما تحولت ولايات مهمة من التصويت للديمقراطيين إلى الجمهوريين. وفي الاستطلاعات الحالية، فإن الموقف لم يتغير عما كانت عليه الحال في انتخابات 2016، حيث يحصل ترمب لو أن الانتخابات جرت اليوم على أصوات ما تسمى الولايات المتأرجحة جميعاً؛ وهي ويسكونسن وفلوريدا وميشيغان ونورث كارولاينا وبنسلفانيا وأريزونا ونيو هامبشير. وهكذا فإن الموقف الانتخابي للرئيس ترمب لا يزال آمناً، ولكن الحلقة المفقودة تظل ما الذي سوف تكشف عنه جلسات الاستماع خصوصاً تلك التي سوف تجري مع مستشاره السابق لمجلس الأمن القومي جون بولتون؟ ليلة إقامة الادعاء والمحاكمة لا تزال في أولها!