يقال إن للسفر سبعَ فوائد، وربما من قال هذا لم يكن يعرف المصريين، وهو أن الفائدة الثامنة لهم أنهم فقط لا يحبون مصر أكثر، وإنما لا يكفون عن التفكير فيها وشؤونها، ما يفرح وما يحزن..! التكنولوجيا جعلت من الأمر سهولة بالغة أن تعيش عبر البحر المتوسط ومن ورائه المحيط الأطلنطى، بينما تشاهد ما يجرى على ضفاف النيل.
لا يوجد ما يزعج أكثر من فارق التوقيت- ست ساعات- وفيما عدا ذلك فهو- أولا- لديك الكثير من الوقت لكى تعرف ما يحدث وما يقال فى مصر، وثانيا إن كل ما يأتى مفصل على مقاس اهتماماتك، فربما تشاهد الحدث كاملا أيا كان استغراقه من الوقت، أو تجد مشهدا فيه عدد من العبارات المركزية، أو الأهداف فى كرة القدم، أو ملخصا وافيا أو مختصرا. مثل ذلك يجعل استخدام الوقت مضاعفا، ويزيد عليه وقتا معقولا للتأمل فيما ترى وتسمع. الوقت أيضا يسمح بإجراء بعض من الحوارات مع أطراف مختلفة مهتمة بالشرق الأوسط، وهذه المرة فإنها لم تقتصر على بوسطن، وإنما شملت أيضا واشنطن وشيكاغو، وفيما عدا ذلك فإن الإطلالة على مصر تأتى من الصحف والمقالات والدراسات. وكانت حصيلة ذلك كله أن هناك ثلاث قصص متداولة عن مصر لم تكن جديدة بالنسبة لى (أوردت هذه القصص فى محاضرة لى بالجامعة الأمريكية فى ٢٥ مارس الماضى)، ولكن تداولها فى الولايات المتحدة كان له نكهة ومصادر مختلفة.
القصة الأولى وربما كانت الأكثر شيوعا فيما يأتى عن مصرـ وهو ليس كثيرـ فى مصادر الإعلام الكبيرة ومراكز البحوث، هو ما تجعل مصر نوعا من «جمهورية الخوف». المعتمد فى هذه القصة من معلومات يعود إلى مصادر محددة ممثلة فى منظمة «هيومان رايتس ووتش» ومنظمة «العفو الدولية»، وجمعيات ومؤسسات «حقوقية» مماثلة، ويضاف لها أفراد من مصر يذيعون أن مصر كانت على وشك أن تكون «سويسرا أخرى» بعد ثورة يناير ٢٠١١، ولكن ما جرى فى الثورة الثانية فى يونيو ٢٠١٣ أحبطها.
هذه القصة معروفة لنا وللكثيرين من قبل، ولكن الجديد هذه المرة هو الاستخدام الثقيل للأحكام القضائية التى تصور أولا على أنها أحكام «جماعية»، وثانيا أنها لا تأتى من خلال محاكمات عادلة جرى فيها ادعاء النيابة، ودفاع المحامين وتداول القضاة والانتقال من مستوى المحكمة الابتدائية حتى الوصول إلى محكمة النقض؛ وإنما هى فى الأول والآخر محاكمة «سياسية».
كان الأمر مفزعا بالنسبة لى عندما وردت أحكام «قضية كرداسة»، وجرت رواية القصة بما سبق، وساعتها لم أكتفِ بسرد المذبحة المروعة التى جرت بقسم الشرطة فى كرداسة، وما حدث فى كنائس ومتاحف، وإنما تساءلت من باب الرغبة فى العلم ماذا سوف يحدث فى الولايات المتحدة، إذا ما جرى الهجوم على قسم شرطة وذبح من فيه والاستيلاء على ما فيه من سلاح؛ وتساءلت ما هو الفارق ما بين الأحكام الأمريكية التى جرت فى عهد إدارة الجنرال جرانت بعد الحرب الأهلية الأمريكية وظهور جماعات إرهابية من المتعصبين، وفى المقدمة منهم جماعة «الكو كلوكس كلان»؟!
القصة الثانية متفاعلة مع القصة الأولى، وتتبادل معها المعلومات، ولكنها إخوانية الجوهر، ونقطة البداية فيها ما حدث فى ميدان «رابعة العدوية» وما جرى من «إجهاض» للديمقراطية فى مصر، أو هكذا يكون الأمر من جماعة فاشية.
القصة وفصولها لا تأتى من إطارات «للبحث العلمى» فى مراكز البحث أو «استقصاء الحقائق» فى الصحافة، وإنما هى جهد منظم يخترق هذه، وتلك بمفرداتها وسبل تحليلها وأدوات التفسير فيها. وشيوعها لا يأتى من قوة الحجة فيها بقدر ما هو ناجم عن تقصير كبير على جانبنا المقابل، فلا قصتنا المصرية رويت، ولا كتب بيضاء عن الموضوعات المختلفة صدرت، ولا مقالات مضادة كتبت. وللحق فإن كثيرا من الوقائع المجانية لم تكن مبرراتها كافية، ولكن ثمنها السياسى كان أكبر مما تستحق. معركة واشنطن- وعواصم العالم المهمة الأخرى- هى جزء من حربنا ضد الإرهاب، وجماعة الإخوان الإرهابية، وهى ساحة مهمة فى إطار سعينا لتنمية مصر وجذب الاستثمارات لها فضلا عن الإقبال عليها والسياحة فيها وتعاملاتها مع الدولة الأمريكية.
القصة الثالثة إيجابية، وشائعة بين الخبراء والمتابعين لما يحدث فى مصر، وتبرز بصفة خاصة فى تقارير المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل صندوق النقد الدولى والبنك الدولى، بالإضافة إلى المؤسسات المالية المشهورة والتى تصدر أحكاما على الدول وما يجرى فيها من تقدم.
فى هذه الحالة فإن مؤسسة إعلامية مثل «بلومبيرج» بمتابعتها اللصيقة لمصر تبرز وجها مضيئا لمعدلات النمو وفى المؤشرات الكلية للاقتصاد المصرية، والأخبار الطيبة عن منطقة شرق البحر المتوسط من نفط وغاز. الجديد فى هذه القصة جاء من وسائل للتواصل الاجتماعى وخاصة على «اليوتيوب» حينما بدأ عدد من الشباب الأمريكى يزور مصر، ويبث بعد الزيارة تسجيلات مصورة عما شاهدوه.
القصة هنا تبدو فيها مصر آمنة، وجميلة، وما فيها من أخطاء ومزاحمات وضغوط معقولة، ولا تختلف فيها عن بقية العالم. هذه التسجيلات بما فيها من ملاحظات تخص مطار القاهرة والبائعين وضعف الثقافة السياحية تقودنا إلى ما يجب عمله خلال المرحلة المقبلة ليس فقط حتى تزدهر السياحة من جديد وإنما لأنها أيضا تؤثر فى الشباب المصرى. فمن خلال التعقيبات التى قرأتها على هذه التسجيلات فإن شبابا سجلوا دهشتهم أنهم وهم المصريون لا يعرفون المناطق التى زارها الضيوف الشباب، ولا يدركون ما فيها من جمال وأصالة وتعبير عن ماضٍ عريق.
القصص الثلاث ليست متعادلة فى ثقلها، ولا فى تأثيرها، ولكن قصتنا الخاصة لها فرصة كبيرة فى الساحة الأمريكية، وربما فى غيرها أيضا، إذا ما كان المرسل له مصداقية، والرسالة فيها الجديد من المعلومات، والجدية فى القول، والسلاسة فى المنطق. المؤكد أن الموقف الشائع من مصر فى أمريكا ليس عادلا، ولكن مهمة تحقيق العدالة هى مهمتنا نحن، وهى جزء لا يتجزأ من مشروعاتنا العملاقة.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع