بقلم : د. عبد المنعم سعيد
التيارات الإصلاحية في العالم العربي عادة تقع بين مطرقة نوعين من الراديكاليين: الأول، على اليمين بأنواعه المختلفة المحافظة والفاشية الدينية، الذي لا يريد تغييراً في الأمر الواقع إلا إذا كان يأخذ المجتمع كله إلى الخلف، فليس له في التقدم نصيب، ولا يهمه كثيراً أو قليلاً ما يجري في العالم وينقله من تاريخ إلى آخر. والآخر، على اليسار الذي يريد تغييرات عميقة وجذرية حتى لو أدى ذلك إلى انكسارات وانقسامات في الدولة المراد تغييرها تحت راية الثورة التي سرعان ما تتحول إلى حالة من الفوضى الدائمة.
المدهش، أن كليهما على اليمين واليسار تحالفا معاً في الهجمة الكبيرة التي جرت على الدولة العربية في مطلع هذا العقد تحت ما سُمي الربيع العربي. فكان اليسار من الاشتراكيين والليبراليين هو الذي بدأ عملية «الثورة» في الميادين، لكنه سرعان ما سلم القضية كلها، إما إلى جماعة الإخوان، أو إلى واحدة من تفريعاتها من أول «القاعدة» إلى «داعش». كان لدى كلٍ منهما سبب لمعاداة الدولة العربية القائمة، إما لولاء لأفكار «حقوق الإنسان العالمية»، أو لفكرة «الخلافة»؛ وكلاهما يعبر الدولة الوطنية إلى ما وراء البحار والمحيطات. كان الإصلاحيون العرب في الوقت ذاته يبحثون عن طريق للتغيير والخروج من الجمود، لكن مع المحافظة على الدولة في الوقت ذاته، التي من دونها لا تغيير ولا بناء.
العقد الأول من القرن الواحد والعشرين شهد الكثير من المحاولات الإصلاحية في العالم العربي، واحدة منها تولدت في عام 2004 تحت اسم «مبادرة الإصلاح العربي» التي شكلت رابطة بين مراكز البحوث السياسية العربية، وأخرى تبنتها «مكتبة الإسكندرية» ضمت مجموعة كبيرة من المفكرين من معظم البلدان العربية. في هذه التجمعات التي تعددت في عواصم عربية أخرى كان هناك تياران للإصلاح: أولهما كان يرى عملية الإصلاح باعتبارها عملية تاريخية ومجتمعية تشمل أبعاداً اقتصادية واجتماعية وثقافية لإعداد الدولة للتقدم لا يوجد فيها لا اختصار للزمن ولا حرق للمراحل. والآخر كانت له «أجندة سياسية» قوامها إحداث تغيير «ديمقراطي» ينبع من الوطن. كان النصف الأول من العقد الأول من القرن الحالي قد شاهد عملية غزو العراق، وتغيير نظام الحكم فيه، والضغط على كل الدول العربية تقريباً بحثاً عما سُمي وقتها «الفوضى الخلاقة» التي كانت تعني ثورة على الأوضاع القائمة ربما تحدث قدراً من الفوضى، لكنها في النهاية سوف تؤدي إلى التغيير والتقدم. ما حدث فعلياً في الواقع كان أمراً مختلفاً، فقد أدى إلى استيلاء التيار المحافظ الفاشي على عملية التغيير من ناحية، وانجرفت دول إلى الحرب الأهلية من ناحية أخرى. وأصبحت واحدة من هذه المبادرات تدار من باريس، وبقيت القيادة فيها لا تتغير منذ عام 2005 حتى الآن، وعندما شاركت في الثورة السورية انتهى الحال بسوريا إلى ما نعرفه الآن!
في الوقت الراهن، بدأ التيار الإصلاحي الشامل يأخذ طريقه في عدد من الدول العربية ليس بطريقة متماثلة أو وفق منهج وآيديولوجية واحدة، وإنما حسب الإطار التاريخي الخاص بكل دولة عربية على حدة. وسواء كان الأمر في السعودية وفي جانبها دول الخليج العربية أو مصر أو الأردن أو المغرب أو تونس، فإن السنوات الماضية شهدت عمليات واسعة للإصلاح اختلفت خصائصها من بلد إلى آخر، لكن جميعها جعل نقطة الانطلاق الأولى هي إجراء تغييرات اقتصادية جذرية تجعل الدولة العربية تقترب من نماذج الدول النامية التي تقدمت عبر العقود الأربعة الماضية. هذه التغييرات أخذت مسارين: أولهما، تحريك الاقتصاد من خلال عمليات استثمار واسعة النطاق بعضها في البنية الأساسية، وبعضها الآخر في بناء المدن الجديدة، وبعضها الثالث في تحديث البنية الصناعية والتكنولوجية في البلاد في اتجاه البحر، وبخاصة في مصر والسعودية. والآخر، التحديث الكبير في البنية الفوقية للاقتصاد من أول قوانين تشجيع الاستثمار وحتى تعويم العملة، كما حدث في مصر. نقطة الانطلاق الثانية كانت أن التطوير لا يخص الحجر فقط وإنما البشر أيضاً، ومن ثم فإن مجالات التعليم والصحة والثقافة بات لها أهمية قصوى، وفي السعودية بدأت خطوات واسعة لبناء الدولة الوطنية من خلال رفع الغطاء عن التاريخ السعودي وعراقته الحضارية. نقطة الانطلاق الثالثة هي أن الدولة لا تدير الاقتصاد والمجتمع من زاوية إدارة الفقر، وإنما من خلال إدارة الثروة والموهبة والمهارة والعودة إلى قيم الاعتدال والتسامح ومقاومة التعصب والتطرف الإرهاب.
لم يكن ما حدث خلال السنوات القليلة الماضية بعملية سهلة، وبخاصة أنها جرت بينما الإقليم يعيش فترة الفوضى والحروب الأهلية والتوغل الإيراني والطمع التركي والإسرائيلي؛ كما أنها جرت بثمن غير قليل. لم تكن التجربة ناعمة، بل كان فيها الكثير من المصاعب التي واجهتها معظم دول العالم التي عزمت على تعزيز الدولة الوطنية، التي وصفها أحد من قام بها في شرق أوروبا بأنها أشبه بالعملية الجراحية التي تحدث من دون تخدير. وبالتأكيد، فإن جماعة الإخوان ومن ساندها كانوا مستعدين لاستغلال المرحلة وما فيها من تضخم ومصاعب، ومع ذلك فإن الإدراك الوطني بطبيعة المرحلة جعل الإصلاح ممكناً سواء ارتفعت أسعار النفط أو انخفضت في الحالة السعودية، أو ارتفاع التضخم كما حدث في الحالة المصرية. النتيجة في النهاية كانت أن الدول العربية التي اختارت الإصلاح بمعناه الشامل بدأت في وضع أقدامها على أول طريق القرن الواحد والعشرين ومساراته التكنولوجية والصناعية والعلمية. «الشمول» في هذا المنهج الإصلاحي لم يكن يأخذ المعاني التي تطالب بها المؤسسات الغربية وتجعل احتواء «الإخوان» ضرورة لسلامة النظام السياسي والاقتصادي، وفي النهاية تؤدي إلى تفكك الدولة، وإنما أن يكون الشمول شاملاً للجماعات الاجتماعية والدينية كافة من ناحية، والمناطق الجغرافية وسكانها من ناحية أخرى. فالسعودية بشكل متزايد تتجه نحو البحر الأحمر ليس فقط من خلال مشروع مدينة «نيوم»، وإنما من خلال التوسعات الاقتصادية التي تشمل الساحل الغربي للمملكة. وفي مصر، فإن التوجه من «النهر إلى البحر» جعل عمليات التنمية تشمل ساحل البحر الأحمر وسيناء والساحل الشمالي كله من طابا إلى السلوم. وفي الحالتين، السعودية والمصرية، فإن التنمية تسمح بمزيد من الاختراق الجغرافي للدولة، واستكشاف ثروات طائلة لم يسبق اكتشافها.
الثابت في كل الأحوال أن ما حدث الآن مقلق لأطراف كثيرة، بعضها فشل في أن يكون له موطئ في داخل الدولة العربية الإصلاحية، وبعضها الآخر الذي كان ينصح دوماً بالإصلاح نجده الآن لا يرى فيما يجري ما يعجب طالما أنه لا يشمل هؤلاء الذين يريدون تدمير الدولة في المقام الأول. والثابت أيضاً هو أن عملية الإصلاح لا تسير دوماً في مسار خطي لأن الظروف الدولية والإقليمية تتغير؛ ولذلك تحتاج إلى مراجعة مستمرة واستكمال لما يجب أن يستكمل.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع