عشت «القضية الفلسطينية» مع أبناء جيلى على مدى خمسة عقود، منذ كنا أطفالًا فى المدرسة الإعدادية؛ حيث كانت أحلامنا «السياسية» تدور حول تحرير فلسطين، وتحرير الجزائر.
كانت الأذهان والمظاهرات لها أحلام تحرير شعوب أخرى؛ أما مصر، فكانت فى اليد الأمينة للرئيس جمال عبدالناصر. وحتى بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧، وفى جامعة القاهرة، ظلت القضية «المركزية» على وهجها، وأسهم فى ذلك أن الفلسطينيين حملوا أعلامهم وبنادقهم وفصائلهم، تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية، وبدأوا النضال، وبات علينا مندهشين الاستماع إلى «الفصائل» التى تعددت تحت أسماء لامعة، من «الجبهة الشعبية» إلى «الجبهة الديمقراطية» إلى «العاصفة» و«الصاعقة»؛ قوميين عرب وناصريين وماركسيين ووطنيين من كل ألوان الطيف، وكما كان يقال أيامها، وكل درجات السلم الموسيقى، يحكون لنا عن النضال من أجل تحرير فلسطين.
كانت الجزائر قد تحررت، وقبلها وبعدها تحررت كل شعوب العالم الثالث التى يحتلها المستعمرون والمستوطنون، واستعادت الصين هونج كونج ومكاو، لم يبق بلد واحد فى العالم، تحت هيمنة وسيطرة دولة أو شعب آخر.
والمرجح أن «بورتوريكو» وعدد من جزر المحيط الباسفيكى لم يعد يهمها التحرير فى شىء وإنما انتظار الانضمام إلى الدولة الأمريكية، كما فعلت «هاواى» عام ١٩٦٤. فلسطين وحدها بقيت على حالها تحت الاحتلال الإسرائيلى، وما نتج عن النضال العسكرى والسياسى كان كيانا فى الضفة الغربية تحت اسم «السلطة الوطنية الفلسطينية»؛ وكيانا آخر فى غزة تحت سيطرة منظمة حماس، ولحسن الحظ حتى الآن كلاهما يعلن انتماءه إلى منظمة التحرير الفلسطينية التى كانت وما زالت نظريًا على الأقل الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى. كلاهما فى مداخله ومخارجه تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، وكلاهما أيضا أعلن خلال عقد، ويزيد من الزمن عن رغبة فى نوع ما من المصالحة التى يبدو أنها لا تأتى أبدًا.
أصبحت الوفود الفلسطينية التى تأتى إلى القاهرة تتحدث عن قائمة طويلة من الاتفاقيات التى جرى إبرامها، تحت رعاية أطراف عدة، أبرزها القاهرة فى الحقيقة، والتى يقوم طرف آخر بمخالفتها، وتبقى المصالحة والوفاق بعيدين بعد السماء السابعة.
ضيوفنا الفلسطينيون على مائدة التحرير فى صالة «المصرى اليوم» كانوا السيد إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسى لمنظمة حماس، رئيس الوزراء الفلسطينى الأسبق، والوفد المرافق له، وجماعتهم فى جولة جديدة من جولات «المصالحة». وللحق، فإن اللقاء بين مصريين وفلسطينيين ليس كأى لقاء مصرى مع ضيوف من بلد عربى آخر؛ فى لحظة اللقاء لا يكون حاضرا إلا تلك العلاقة النفسية الممتدة عبر عقود مع «القضية»، فيكون العناق للإنسان، وليس لما يمثله من «فصيل» فلسطينى يتحمل الكثير من المسؤولية عما آلت إليه قضية العرب «المركزية».
لم يحتَجِ الأمرُ وقتًا كثيرًا حتى تأتى لحظة الإفاقة عند حديث السيد هنية، وكأن العقود الخمسة منذ الستينيات من القرن الماضى لم تمر، ولا كان الحديث عن «الثوابت» لم يُقَل ألف مرة، ولا ثبت أن «الصمود» انتقل بالقضية بوصة واحدة إلى الأمام.
الساسة فى دول العالم لا يتحدثون عن «الثوابت» كثيرا، لأنها تعد من حقائق الطبيعة والأشياء، وإنما كيف سيتم الانتقال من الواقع الراهن إلى أهداف وطنية، ويعنى ذلك بالضرورة التعامل مع «المتغيرات» الداخلى منها الخارجى، المرحلى والنهائى. لم يعد العالم كما كان، لا عندما بدأت فتح، ولا عندما قامت منظمة التحرير، ولا عندما جاءت حماس، ولا عندما جرى توقيع اتفاق أوسلو؛ ولا أصبحت المنطقة العربية كما كانت عند كل ذلك، ولم تمر مياه كثيرة تحت الجسور، وإنما كانت مختلطة طوال الوقت بالدماء.
لم يعد الفلسطينيون وحدهم الضحايا، ولكن بات معهم السوريون والعراقيون واللبنانيون والليبيون واليمنيون، وفى كل الأحوال تعرضت الدولة العربية لاختبارات قاسية، وقبل أن يحصل الفلسطينيون على دولة بات لديهم واقعيًا مشروع دولتين. حدث الانقسام والانفصام قبل حدوث الوحدة. ومن كثرة الحديث عن «الثوابت» بدت الكرة الأرضية كأنها توقفت عن الحركة!
هناك بالطبع آلام مصرية من الصعب أن تنزعها، وكان لا بد لها أن تظهر فى أسئلة زملاء «المصرى اليوم» وتعليقاتهم، فلم يكن سهلا تجاوز العلاقة بين تنظيم حماس وجماعة الإخوان المسلمين، أو تجاهل الاجتياح المدنى لسيناء الذى جرى فى شتاء عام ٢٠٠٨، ولا الهجوم على مصر بمجرد حدوث زعزعة فى الدولة، عندما بدأ «الربيع العربى» يأتى برياحه المتربة وعواصفه الساخنة، ولا تثقيب الحدود المصرية بالأنفاق لتهريب الإرهاب والإرهابيين إلى سيناء مع البضائع والسلع وتحصيل الضرائب عليها.
ولكن الانضباط المصرى ومهارة الأستاذ عبداللطيف المناوى، رئيس التحرير، أبقيا التناقضات على المائدة؛ فلم تكن هناك مصلحة مصرية فى انهيار جهود المصالحة. ولكن الحرص لا يمنع من النصيحة التى أولها كما عرضنا أن همّ السياسى ليس الحديث عن «الثوابت»، وإنما عن التعامل مع «المتغيرات».
الأمر الآخر أنه إذا كان الفلسطينيون يريدون دولة مستقلة، فإن ذلك لن يكون ما لم تكن هناك سلطة شرعية واحدة، تمثل الشعب الفلسطينى، وتحدد الأمن القومى، والاستراتيجية والتكتيك.
والأهم من ذلك كله، لها وحدها الحق الشرعى فى استخدام السلاح. تجربة حزب الله فى لبنان، والآن فى سوريا أيضا، لم تجعل من لبنان دولة مستقرة، ولا حمت سوريا من دخول عدة جيوش إسرائيلية وروسية وتركية وإيرانية، ولا ردعت إسرائيل، وتعرضت غزة للتدمير عدة مرات.
بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط يوجد ١٢ مليونًا من البشر، نصفهم من الفلسطينيين، ونصفهم الآخر من اليهود، وكلاهما ربما يمثل الثابت الكبير على أرض الواقع. التداخل بينهما كبير، فداخل إسرائيل يوجد مليون وستمائة ألف فلسطينى ينتشرون بين يافا وحيفا والنقب والمثلث والجليل. وفى الضفة الغربية يوجد عدد مماثل بين القدس والمستوطنات.
الجميع يعيشون سوقا نقدية ومالية وأمنية وعمالية وبيئية واحدة رغم الصراعات والنزاعات والحروب؛ هذه كانت المتغيرات التى جرت مهما كانت حدة الثوابت. وما لم يكن هناك استعداد فلسطينى للتعامل مع الديمغرافيا بالقدر الذى يتم فيه التعامل مع الجغرافيا والتاريخ، فإن القضية الفلسطينية سوف تبقى على حالها حديثا مستمرا عن «الثوابت» التى تبدو مثل مكعب الثلج فى يد الأعمى الذى يحاول معرفة مقاساته بينما يذوب بين أصابعه.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع