توقيت القاهرة المحلي 14:21:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الخلاص الإقليمي من التباعد الكوني

  مصر اليوم -

الخلاص الإقليمي من التباعد الكوني

بقلم: عبد المنعم سعيد

رغم الكثير من الغموض الذي يلف بأزمة «كوفيد - 19»، فإن ظاهرة الاهتمام بمستقبل ما بعد الأزمة تجب أحياناً الاهتمام بالأزمة ذاتها؛ أو أن الحقيقة هي أن من يهتمون بالجائحة لديهم من الغموض والهموم ما يكفيهم عن الكلام حول ما سوف يعنيه البلاء في أعقابه؛ بينما المتوجسون منه يحاولون الاجتهاد فيما سوف يكون عليه الحال في «اليوم التالي» بعد أن ينفض الغبار.
المهتمون بالمستقبل عادة ما يأخذون الكون كله كوحدة للتحليل، وإذا ما كان هناك تواضع يكون حول «النظام العالمي»، وسباق القوى الكبرى على المكانة والهيمنة. البعض الآخر من المستقبليين يركز على قطاع بعينه من النشاط الإنساني، وهو في العادة النشاط الذي يوجد قياسات له، وفيه من الدلائل الكمية ما يمكن أخذها على امتداد سياقها لكي نعرف ما سوف يكون عليه الحال في العام المقبل، أو حتى خلال الأرباع الاقتصادية التي ستلحق بالربع الأول الذي تولدت فيه الأزمة وما فيها من فواجع. ومن هذه الأخيرة سوف نجد توافقاً حول مجموعة من الحقائق السائدة في معظم الدراسات: أولها أن الأعباء الاقتصادية على الدول تتصاعد؛ والثانية أنه نتيجة لذلك تزايد دور الدولة في الاقتصاد؛ وثالثها أن معدلات الفقر تتزايد والأمن الغذائي يواجه تهديدات جمة؛ ورابعها ظهور اختلالات حادة في المؤشرات الكلية للاقتصاد والمالية العامة؛ وخامسها أنه رغم قدرة الشركات الكبرى والقوية على الصمود فإنَّ الشركات الصغرى والضعيفة سوف تنهار؛ وسادسها أن الاقتصاد الرقمي والافتراضي سوف يزدهر. يضاف إلى هذه التوافقات الستة ما أضافه الباحث علي صالح في دراسته «التباعد الكوني»: ملامح جديدة للاقتصاد العالمي في مرحلة «ما بعد كورونا» (دراسات خاصة، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبي). وواضح أن عنوان الدراسة مأخوذ عن مفهوم التباعد الاجتماعي الذي كان واحداً من أسلحة مواجهة انتشار العدوي من المرض؛ والذي أخذ أحياناً بالفصل بين الوحدات الإدارية في الدول أو حتى في كل وحدة إدارية على حدة بعزل وحدات سكنية كاملة مصابة عن بقية الأصحاء الذين لم يصل لهم الوباء بعد.
وباء «كوفيد - 19» فرض بالفعل هذه الحالة من التباعد الكوني بين الدول حينما فرضت دول العالم حظراً على السفر منها وإليها؛ وشجعت الدول الأخرى أو ضغطت عليها أن تسحب مواطنيها «العالقين»؛ وبشكل آخر حاولت الدول أن تعتمد على ما لديها من احتياطيات مالية أو غذائية، وتبحث في الوقت نفسه عن إمكانات زيادة الإنتاج المحلي بقصد توفير احتياجات السوق المحلية. مثل ذلك يبدو منطقياً في نطاق دول واقتصاديات قارية مثل الولايات المتحدة أو الصين، وربما تكون منطقية أيضاً في حالات دول صغيرة المساحة والسكان أيضاً؛ لكنه من الصعوبة بمكان في الدول متوسطة المساحة والكثيفة السكان. ومن الجدير بالذكر هنا، أن هذا التباعد الكوني بدأ حتى قبل نشوب الأزمة وانتشار الفيروس عبر الحدود والشعوب عندما ساد ما سمي بسياسات «الهوية» التي دفعت في اتجاهات اليمين المحافظ في الدول الديمقراطية في ناحية، وفي ناحية أخرى سلامة توجهات قيادات الدول ذات السياسة المركزية في صنع القرار. هذه التوجهات المواجهة والمقاومة للعولمة السياسية والاقتصادية والثقافية كان لها أصولها قبل أزمة «كورونا»، وبالتأكيد فإن انتشارها في المعمورة كان سيثلج قلب ساسة مثل الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون وغيرهما حتى من دون الأزمة، لكن وقوعها قدمت دافعاً إضافياً لكي تقيم كل دولة الكثير من الأسوار الإضافية.
لكن أياً ما كانت مصائر الدول في العالم، وحالة تباعدها عن الدول الأخرى، فإن قضية الدول ليست فقط تحقيق «الاكتفاء الذاتي» من الغذاء والسلع الأساسية، وإنما أن يتم ذلك أيضاً بطريقة اقتصادية لا تسمح بخسائر اقتصادية فادحة أو تمنع وجود إضافات لمعدلات النمو الضرورية. وفي الشرق الأوسط تحديداً، وبالذات داخل العالم العربي، فإن أفكار العزلة والتباعد الكوني أو الدولي ليست مغرية بالعائد، والأرجح أن الانكفاء داخلياً سوف يقلص من فرص النمو، والأهم عمليات الإصلاح الجارية في عدد من الدول العربية. فالتاريخ القريب للدول العربية في أعقاب جائحة «الربيع العربي» إما أنه أدخل عدداً من الدول العربية إلى الحرب الأهلية أو النزاعات الداخلية العميقة، وهذه بدورها استدعت أو أغرت دولاً إقليمية مثل إيران، وتركيا، وإسرائيل بالهجوم عليها، والتدخل في شؤونها أو كسب أراض على حسابها؛ أو أنها ذهبت في طريق الإصلاح العميق الذي يأخذ قرارات بالغة الصعوبة عزفت قيادات ونخب سابقة في الدولة عن اتخاذها. الاختيار الأول يظهر في أحوال سوريا واليمن وليبيا؛ والثاني يظهر بشدة في أحوال مصر، والسعودية، والإمارات، والأردن، والكويت، والمغرب؛ وما بين الاختيارين تتأرجح توجهات واختيارات الدول العربية الأخرى.
وهنا، فإن استمرار الإصلاح في تحقيق غاياته خلال العقد الحالي سوف يتطلب أولاً الخروج من أزمة «كورونا»، ولحسن الحظ أنه وفقاً للأرقام المعلنة، فإن حظوظ دول الإصلاح من اللعنة معقولة، ولا يوجد فيها لا ما جرى لا في الصين ولا الولايات المتحدة ولا أوروبا، وفي الإقليم فإنها على مسافة كبيرة أقل من إيران، وتركيا، وإسرائيل. وثانياً، فإنه إذا كان العالم سوف يسير في اتجاه «التباعد الكوني» فإن توفر حجم معقول من السوق سوف يكون ضرورياً لاستمرار الإصلاح حتى تستطيع منتجات الدول العربية أن تعمل بطريقة اقتصادية تقدم لمعدلات النمو ولا تأخذ منه. وثالثاً، أن تخطيط الحدود البحرية بين مصر والسعودية قبل سنوات كان واقعاً في إطار عمليات التنمية الجارية في مصر والتي أخذت التركيز الاقتصادي في مصر من «النهر إلى البحر»، ومن النيل إلى البحرين الأحمر والأبيض؛ وفي إطار عملية الإصلاح السعودية التي أخذت هي الأخرى الاقتراب من البحر الأحمر وخليج العقبة، بل وفي خطوات عابرة إلى سيناء والأردن. الاقتراح المحدد هنا هو أنه إذا كان التباعد الكوني سوف يكون إحدى نتائج الأزمة العالمية فإن سوقاً من 200 مليون نسمة تقريباً يمكنها أن تكون ساحة اقتصادية لمصر، والسعودية، والإمارات، وبقية دول الخليج والأردن تستوعب نمو الصناعات القائمة؛ وتجعل الاستثمارات الزراعية مربحة، وعمليات تحلية المياه اقتصادية، بل وصناعات السيارات والأجهزة المنزلية ومختلف أشكال التكنولوجيا ممكنة ومربحة.
أكثر من ذلك، فإنه على ضوء الاكتشافات التاريخية الجديدة في المملكة، مضافاً إلى التراث الفرعوني المصري، والروماني الأردني، يخلق سوقاً سياحية مشتركة غير أخرى للنفط والغاز وأشكال الطاقة الجديدة والصناعات المرتبطة بهم. ليس مقصوداً من كل ذلك تحقيق نوع من العزلة عن العالم، وإنما التعامل مع أحد الاحتمالات الممكنة لمستقبل الأزمة الحالية وتبعاتها الصعبة. ويكون ذلك ضرورياً على ضوء توقعات أخرى لصراعات ومنافسات الدول الكبرى، وكلها لا ترى في الشرق الأوسط، والعالم العربي خاصة، إلا ساحة تستنزف فيها ثروات، أو تسيل فيها دماء. لكن هذه قصة أخرى على أي حال!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الخلاص الإقليمي من التباعد الكوني الخلاص الإقليمي من التباعد الكوني



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 10:34 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024

GMT 10:38 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر

GMT 10:52 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

GMT 09:38 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 21:45 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

فجر السعيد تفتح النار على نهى نبيل بعد لقائها مع نوال

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 20:43 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

الأمير هاري يتحدث عن وراثة أبنائه جين الشعر الأحمر

GMT 20:11 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

تكريم توم كروز بأعلى وسام مدني من البحرية الأميركية

GMT 09:56 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon