غابت مصر عن عالمها لمدة أربع سنوات تقريبا منذ نهاية 2010 وحتى نهاية 2014؛ وهذه السنوات كثيرا ما سميتها عهد الثورات الذى كان يشمل ثورتين وتوابعهما. خلال هذه الفترة انخفض معدل النمو القومى لأقل من 2% سنويا، ولما كانت الزيادة السكانية أكثر فإن النمو القومى كان فى حقيقته سلبيا.
ولكن الغياب لم يكن فقط عن النمو الاقتصادي، وإنما عن التنمية، فالبنية الأساسية لم تتوقف عن النمو فحسب بل إنها بدأت فى التدهور، وأكثر من ذلك فقد كان هناك من سعى إلى تدميرها كما حدث مع تفجيرات أنابيب الغاز وأعمدة الكهرباء. وخلال هذه الفترة تآكل الاحتياطى القومى من العملات الصعبة والذى تعدى الخمسين مليار دولار (36 مليار دولار احتياطيا قوميا، و9 مليارات دولار من تعويضات حرب الخليج، و7 ونصف مليار دولار من البنك المركزى إلى البنوك المصرية) إلى أن وصل إلى 13 مليار دولار تقريبا. والآن نعرف من البنك المركزى أن خمسة آلاف مصنع تعثرت، أو باختصار جزء رئيسى من القاعدة الصناعية المصرية التى جرى بناؤها خلال عقود سابقة.
وكان للغياب عن التنمية ثمن لا يقاس فقط بمقارنته مع الزيادة السكانية، وإنما لابد من إضافة الزيادة الهائلة فى التوقعات التى ولدتها كل ثورة، فكانت النتيجة زيادة فى الأجور لا يقابلها زيادة فى الإنتاج؛ وأكثر من ذلك زيادة كبيرة فى الإحباط لأن ما تمخض عنه الجبل الثورى كان حكم الإخوان المسلمين!.
ثمن الغياب الكبير لم يكن ماديا فقط، وإنما كان كثيرا من الإرهاب، وأكثر منه ظنون كثيرة حول مقدرتنا على النهوض مرة أخري؛ وحتى إذا نجحنا فى النهوض فهل يكون ذلك على الطرق القديمة التى نتقدم فيها خطوة ثم نتراجع خطوات إذا لم يكن على صعيد الاقتصاد فهو على صعيد الفكر.
ما جرى لمصر لم يكن قليلا، فقد جرت «قولبة» للفكر المصرى ظهرت فى عادات وتقاليد جديدة قائمة على التشدد والدروشة والعداء للحرية والعالم المعاصر فى العموم. كان «الإخوان» يهندسون العقل المصرى ويجهزونه على حكمهم؛ ولكن عندما حكموا لم يوجد عندهم ما يقدمونه سوى المزيد من التقييد والخروج بمصر عن طريقتها المدنية. وعندما ثار الشعب المصرى وتغير النظام والدستور فإن البقايا من بصمات الجماعات المتطرفة ظلت موجودة، وعلى استعداد دائم لليقظة عندما تأتيها الإشارة والإشاعة من اسطنبول.
ولعل ذلك كان طريق الكفاح الذى مضينا فيها خلال السنوات الأربع الماضية، فقد كان علينا أن نستعيد الأمن والأمان فى مصر مرة أخرى؛ كما كان علينا أن نجعل الاقتصاد يمضى على أقدام طبيعية وغير قائمة على «الزيت والسكر» سواء الذى كانت تقدمه جماعة الإخوان فى صورة الصدقات، أو الحكومة التى ظلت تقدمه فى صورة الدعم.
كان الثمن فادحا فى كل الأحوال، ولكن الضوء ظهر فى نهاية النفق مبكرا ليس فقط عندما بدأنا مشروع تفريعة قناة السويس وانتهينا منه فى عام، وخلال العام ذاته توقفت الكهرباء عن الانقطاع. ولكن أهم الإنجازات كانت استعادة الأمن والأمان مرة أخرى إلى المجتمع والدولة. وفى الأسبوع الماضى نشر معهد جالوب لقياسات الرأى العام مقياس النظام والأمن والذى جرى فيه استطلاع الرأى فى 142 دولة وفقا له جاءت مصر فى المكانة العاشرة، وبعدد نقاط 88، وبالمشاركة مع الدنمارك وسلوفينيا ولوكسمبرج والنمسا والصين وهولندا؛ وسابقة على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا.
وكانت الدول السابقة عليها هى على الترتيب من الأول إلى التاسع سنغافورة والنرويج وأيسلندا وفنلندا وأوزبكستان وهونج كونج وسويسرا وكندا وإندونيسيا. الدول العشر الأخيرة كانت على الترتيب من الدولة الأخيرة فنزويلا، أفغانستان وجنوب السودان والجابون وليبريا وجنوب أفريقيا والمكسيك وجمهورية الدومنيكان وبوتسوانا وسيراليون وبوليفيا.
كانت المعايير التى استند إليها الاستطلاع هى مدى الثقة التى يشعر بها المواطن فى أجهزته الأمنية، وقدر الجرائم التى حدثت له خلال عام مضي، ودرجة الخشية من الخروج ليلا إلى الشارع العام، وهكذا أسئلة وتساؤلات على الوتيرة نفسها.
وعلى مدى السنوات الأربع الماضية استعاد الاقتصاد المصرى حيويته مرة أخري؛ وتدريجيا ارتفع معدل النمو حتى تجاوز الآن نسبة 5%، ومع هذا بدأت الطموحات المصرية والاقتصادية تكبر إلى تصور تحقيق معدلات للنمو تتجاوز 7% وهو الحد الفاصل ما بين الأحوال الحالية لمصر، والإنطلاقة إلى الآفاق الأرحب للدول المتقدمة.
ومع فترة رئاسة جديدة، ووزارة جديدة أيضا، فإن فاتورة الغياب سوف تأخذ فى التراجع، ولكنها لن تنتهى تماما اللهم إلا اذا توافرت أربعة شروط: الأول منها استمرار النهج نفسه القائم على الحلول الجذرية للمشاكل الوطنية وطبقا للخبرة العالمية دون تردد أو تراجع. وثانيها أن يكون لدينا الشجاعة ليس فقط لاتخاذ القرار، وإنما لشرح أسبابه ودواعيه وتجارب الدول الأخرى للسير فيه. وثالثها أن المسيرة التى نسير فيها ليست مجرد حلقات من الألم والمعاناة، ولكنها من الفرص أيضا التى تتيح للمواطن حياة أفضل تماثل أو تقترب من تلك التى يعيشها البشر فى الدول المتقدمة. ورابعها أن المواطن شريك فى هذه المسيرة، وإذا كانت لدى الدولة الشجاعة للمطالبة بتجديد الفكر الديني، فربما تكون الشجاعة واجبة فى ضرورة تجديد الفكر المصرى الملوث بالفكر الإخوانى والسلفي، والمكبل بما هو متخلف من عادات وتقاليد تدفعه إلى الإنجاب فوق ما يطيق، وإلى الاستهلاك بأكثر من الطاقة، والاقتداء بما يفعله المواطنون فى دول أخرى من اجتهاد وعمل ومثابرة وتحمل وادخار واستعداد للتعلم.
لقد كان ثمن الغياب فادحا نعم، ولكنه أيضا كان فترة للتعلم والنضج ظهرت فى الاستجابة الشعبية الإيجابية للقرارات الاقتصادية، وفى الاستعداد للتضحية والفداء فى مواجهة الإرهاب، وبقى أن الشعب يعلم أنه لا يريد العودة إلى الوراء سواء كان ذلك الوراء هو الدولة البيروقراطية، أو كان دولة الإخوان المتخلفة. بات على الشعب أن يعلم فى تجربة السنوات الأربع المقبلة أن الزمن الآن يعنى الذهاب إلى المستقبل.
نقلًا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع