توقيت القاهرة المحلي 14:21:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

قصة مصرية

  مصر اليوم -

قصة مصرية

بقلم: عبد المنعم سعيد

حاولت دائماً أن أجعل مقالي لـ«الشرق الأوسط» الغراء مخاطباً للقضايا العربية؛ لكن من وقت إلى آخر فرضت أمور مصرية نفسها، وأظن أنها تلقى اهتمام القراء من الدول العربية؛ لأنها عادة مثيرة ولما لمصر من محبة. وهذه المرة، فإن المقال يأتي أثناء أيام عيد الفطر المبارك أعاده الله على الأمتين العربية والإسلامية باليُمن والبركات؛ حيث يغالب العيد ومشاعره الطيبة حالة الإغلاق التام المصاحبة لجائحة «كورونا» اللعينة. بعض من القصص المصرية قد يكون مسلياً، وعلى الأرجح أنه سوف يكن داعياً للتفكير إذا ما بدا أنه يتعدى حدود مصر إلى أشقائها من العرب. والقصة وردت خلال الأشهر الماضية وطرفاها ممن يسمون في المحروسة من أصحاب «القيمة والقامة»، الشيخ الكبير علي جمعة مفتي الديار المصرية الأسبق، وأحد الأئمة الذين تخطت بركاتهم الوعظ والإرشاد المعتدل والوسطي للشريعة الإسلامية، إلى العمل من أجل الخير في مؤسسات تكفل اليتيم، وتعين الضعيف، وتقيم سقوفاً لمن لا سقف له في قرى مصر الفقيرة. وفوق ذلك كله هو نجم تلفزيوني جعل من حلاوة الحديث تقليداً ومن اللباس الديني تعبيراً عن الأناقة وحسن الاختيار وانسجام الطلعة. الآخر هو الدكتور زاهي حواس، وزير الآثار الأسبق وأحد علماء مصر المعدودين أصحاب الشهرة العالمية في مجال الآثار المصرية القديمة، والذي فضلاً عن اكتشافاته الخاصة التي وضعته جنباً إلى جنب مع كبار المكتشفين العالميين، فإنه بالتأليف الكثيف والظهور المستمر في البرامج التلفزيونية العالمية (ديسكفري والتاريخ)، صار عنواناً لمصر أمام قادة دول العالم من الرئيس باراك أوباما إلى ميلانيا زوجة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وله «براند» عالمي في القبعات والملابس ومكملاتها لمظهر العلماء والمكتشفين. وعندما يكون طرفا القصة بهذه المؤهلات فإنها لا تؤخذ فقط من تطوراتها المثيرة، وإنما أكثر من ذلك ما وراءها من مناظرة فكرية مصرية، ومن يعلم عربية أيضاً، لا يمكن تجاهلها.
تفاصيل القصة بسيطة، وبقدر ما كانت البداية منذرة، فإنها كما يحدث كثيراً في الأفلام المصرية انتهت نهاية سعيدة حتى ولو كان التناقض الأساسي لم يصل إلى حل كما هي العادة. الأستاذ الدكتور الفقيه الأنيق علي جمعة كانت لديه طلقة البداية عندما في واحدة من طلاته التلفزيونية دخل مباشرة وبشجاعة إلى التاريخ المصري القديم، ومن بدايته الأسطورية عندما ولدت مصر على يد الثلاثية التي تضم الإله أوزوريس وزوجته إيزيس وولدهما حورس. أراد عالم الدين أن يربط الزمن مع الدين فيستقيم التاريخ ويعتدل عندما يكون الإله المصري القديم هو النبي إدريس عليه السلام. وأكثر من ذلك، فإن نبينا كان هو الذي علم المصريين القدامى فن بناء الأهرامات، فقامت على يديه الكريمتين العجيبة الباقية من عجائب الدنيا السبع: أهرامات الجيزة الثلاث. المغامرة الفكرية استمرت عندما ذكر في حديث تلفزيوني آخر أن الملك رمسيس الثاني - أحد عظماء ملوك مصر في العصر الفرعوني الوسيط والذي أقام المسلات والمعابد وأشهرها الكرنك - كان هو فرعون مصر الذي غرق إثماً في البحر هو وجنوده، وجاء ذكره في الكتب المقدسة ساعة خروج العبرانيين على يد النبي موسى عليه السلام.
هكذا دخل عالم الدين إلى عالم التاريخ الفرعوني الذي يقيم فيه الأستاذ الدكتور زاهي حواس مؤلفاً وباحثاً ومكتشفاً وعالماً، ولما كانت نوافذه إلى الرأي العام ممتدة من الصحافة إلى التلفزيون فإنه واجه بقوة ما رواه عالمنا الديني الكبير باعتباره بلا سند علمي ولا تاريخي، ولا يجوز هكذا أن تأتي الإبل إلى مواردها. لم يختر الدكتور حواس الصمت في لحظة بدا العلم فيها يتعرض لاختبار صعب؛ أو أن يقبل ما جرى عليه العرف بالفصل ما بين ما هو علمي، وما هو ديني؛ ومن بعدهما عالم العلم، وعالم الدين، فالأول مادي والآخر روحي، والفصل بينهما من حسن الفطن. عاد رجلنا إلى ما يعرفه رأي العين ولمسه بالأصابع في الحفريات والمعابد وأوراق البردي ولفائف المومياوات، فلم يكن هناك للنبي إدريس دور في بناء الأهرامات، ولم يكن رمسيس الثاني هو فرعون مصر ساعة الخروج الكبير للعبرانيين، وأضف إلى ذلك أن أياً من الأنبياء الذين جاء ذكرهم على لسان الشيخ الجليل لم يكن له أصول ولا ذكر فيما وصل إلينا من عصور الفراعنة. أصبحت المواجهة لاسعة عندما وجد الشيخ العالم أن المصادر المادية للمعرفة لم تقل لنا كل القصص، وما كان منها خافياً لا يزال أكبر بكثير مما نعرفه وورد في الكتب المقدسة. لم يستند صاحبنا إلى التقاليد الغربية التي قامت على الفصل ما بين القصة «التاريخية» للتاريخ وما تستند إلى من آثار ووثائق، والقصة «الدينية» التي تعتمد على ما ورد في النصوص من حقائق لا تعرف الباطل.
جرى الاشتباك اللفظي بأدوات التعبير المختلفة بين العالم الديني وعالم الآثار، وكانت فيه جروح غير دامية خصت مدى الغرام بالأحاديث التلفزيونية، لكنها انتهت عندما تجمع أصدقاء للطرفين يعرفون ما عليهما من قيمة ومقام لكي يصلحا بينهما.
انتهت المنازعة وكان الصلح خيراً في عشاء سلام - للأسف لم أدعَ إليه - قدمه بكرم بالغ صديقي السفير الدكتور مصطفى الفقي، رئيس مكتبة الإسكندرية والمفكر الكبير والكاتب المرموق. وللأسف لم يفصح أحد على غير المعتاد في مثل هذه المواقف التي تكثر بعدها الحكايات عما جرى فيه من أحاديث العتاب والوئام. افتقد التاريخ لحظة لا تعبر فقط عن أطرافها وما أتى منهم من تفكير وأفكار، وإنما تلقي الضوء على بعض من قضايانا الشائكة. والحقيقة أن حضور العشاء كان ضرورياً لتسجيل لحظة تاريخية في مناظرة كبرى حول مصدر المعرفة، وهل هي في النهاية تسليم أم تقدير؟ هو سؤال فلسفي قديم جاء في السطور الأولى من كتاب أفلاطون «القوانين» حول مصدر القانون، وهل يأتي من الآلهة أم من الإنسان؟ السؤال الموازي في قصتنا الراهنة عن مصدر التاريخ وعما إذا كان تفسيراً ومواءمة لما جاء في الكتب الجامعة على ضوء ما نراه الآن فنفهم الكلمات ونعرفها ونعيدها إلى قصص تاريخي محكم؛ أو أننا أعلم بشؤون دنيانا التي نبحث فيها عن الأصول والمراجع واللفائف والمخطوطات والوثائق. الأولى تقرب وتوصل الحكمة لأذهان البشر، والأخرى تقرب اليقين والمعرفة للإنسان.
وكما يقال في الأزمات وعما إذا كانت كاشفة أو منشئة، فإن القصة بالتأكيد كاشفة عن معضلات أكبر من الواقعة التي انتهت ساعة العشاء في سرور وحبور؛ أو القصة المصرية، ومن يعلم العربية، التي تدور حول أمور كبيرة بين التقليد والحداثة، والتفكير والتلقين، والأصالة والمعاصرة. وإذا كان القارئ الكريم يريد أن يعرف أين سيكون موقف كاتب المقال بين العالمين جمعة وحواس، فإن الأمر ربما يحتاج إلى مقال آخر؛ فهذه أيام رحمة لا يجوز فيها الولوج في قضايا معقدة. وكل عام وأنتم بخير.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قصة مصرية قصة مصرية



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 10:34 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024

GMT 10:38 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر

GMT 10:52 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

GMT 09:38 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 21:45 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

فجر السعيد تفتح النار على نهى نبيل بعد لقائها مع نوال

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 20:43 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

الأمير هاري يتحدث عن وراثة أبنائه جين الشعر الأحمر

GMT 20:11 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

تكريم توم كروز بأعلى وسام مدني من البحرية الأميركية

GMT 09:56 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon