حققت الصين فوزا تاريخيا عدما دخلت إلى نادى الدول المنتجة للطائرات التجارية، رأسا برأس مع طائرات شركات «بوينج» و«إيرباص» الأوروبية، فى إنتاج طائرة ركاب كبيرة تحت اسم C919 فى أول رحلة تجارية لها.
وهكذا أضافت الصين إلى سلاسلها الصناعية سلسلة أخرى عالية الثمن وكبيرة المقام فى قدراتها التكنولوجية وطاقاتها التجارية. والأهم أنها قدمت أول البدائل العالمية لصناعة ظلت دوما احتكارا عالميا خالصا للدول الغربية.
وفى وقت من الأوقات كانت الصناعة الغربية للطائرات نوعا من تقسيم العمل الدولى، تخرج فيه الولايات المتحدة والدول الغربية «المتقدمة» و«الراقية» من الصناعات الأقل تعقيدا من الناحية التكنولوجية مثل الغزل والنسيج والحديد والصلب والألومنيوم والأسمدة، أى الصناعات عالية الاستهلاك للطاقة والملوثة للمناخ؛ بينما تحتكر الصناعات المتطورة والمعقدة المتعلقة بصناعة الطائرات والمركبات الفضائية والتكنولوجيات الحيوية والرقمية والذكاء الاصطناعى.
الصين لم تقبل هذه القسمة غير العادلة، ولكن أسلوبها قام على تطوير «العولمة» بفتح أسواقها للصناعات الغربية من السيارات والتليفونات الجوالة وأشهرها الخاصة بشركة «آبل».
بعد هذه الخطوة الأولى التى تستفيد فيها من رخص أسعار عمالها، وتوافر القدرات العلمية لديهم، فإن الصين تبدأ تدريجيا فى فهم وتقدير التكنولوجيات الغربية، وتخلق نموذجها الخاص ثم بعد ذلك تتفوق عليها. بهذه الاستراتيجية تمكنت الصين من اللحاق بالدول الصناعية مثل ألمانيا وبريطانيا واليابان، وبالتأكيد الولايات المتحدة الأمريكية. إنتاج الطائرة C919 هو تطبيق لهذه الاستراتيجية التى تحتاج إلى درجات عالية من الصبر والإتقان.
رد الفعل الغربى على هذه الخطوة لحسن حظ الصينيين يعكس درجة من عدم الفهم للاستراتيجية الصينية التى لا تكل عن التقدم خطوة بعد خطوة فى المجالات التى تستهدفها من السيارات وحتى الطائرات التجارية.
وفى تغطية لقناة الـ«سى.إن.إن» لإنتاج الطائرة الصينية ورد أنه بدلاً من تعزيز مكانة الصين العالمية فى مجال الابتكار التكنولوجى، يقول الخبراء إن C919 هو رمز لاعتمادها المستمر على الغرب. وذلك لأن جزءًا كبيرًا من أجزاء الطائرة يأتى من موردين أجانب، وفى الغالب من أمريكا الشمالية وأوروبا.
ورغم أن الصين أعلنت أن حوالى 40% من مكونات النموذج الطائر مستوردة فإن «C919 فريدة من نوعها حيث لا يوجد شىء تقريبًا يبقيها فى الهواء من الصين». «C919 هى فى الأساس طائرة غير صينية عليها طلاء صينى».
متابعة الطائرة على هذا النحو تغفل النموذج التنموى الصينى الذى يقوم على قدر هائل من الإصرار من ناحية، والقدرة الفائقة على إجراء البحوث والتطوير عند التعامل مع النماذج العالمية للمصنوعات المختلفة من ناحية أخرى. وقد تكون الطائرة الصينية تستند فى صناعاتها على الموردين العالميين كما يليق بقوة اقتصادية عالمية.
ولكن الحقيقة هى أن الشركات المصنعة الأخرى غالبًا ما تعتمد على الواردات حيث تعتمد بوينج وإيرباص على موردين عالميين؛ ويقدر أن مكونات شركة بوينج الأمريكية حوالى 40% إلى 50% منها مكونات من خارج الولايات المتحدة. شركة إيرباص الأوروبية لها مصادر أيضًا من دول مثل ماليزيا. الصين لديها الطموح لمنافسة شركتى إيرباص وبوينج، اللتين تحتكران سوق الطائرات التجارية.
وقد يستغرق الأمر سنوات عديدة حتى يتم اعتماد طائراتها من قبل منظمى الطيران فى الولايات المتحدة وأوروبا. ولكن بمجرد زيادة الإنتاج، من المتوقع أن يربح المزيد من الطلبات فى الداخل، أو فى البلدان النامية، حيث لا تتمكن شركات النقل من تحمل أسعار رواد السوق الحاليين. فى إندونيسيا، أصبحت شركة الطيران المحلية «TransNusa» أول عميل خارجى لشركة الإنتاج الصينية «كوماك».
المعتاد الجديد فى العلاقات الدولية هو أن الصين باتت قوة عظمى، ولم تعد فى سبيلها لكى تكون كذلك، واهتمامها كان ولا يزال هو استمرار عملية البناء الداخلى على مسار الدولة العظمى التى تصدر للعالم كل شىء ومعه تصل إلى الفضاء الخارجى.
وإذا كان الأمريكيون يعتقدون أن الصين ليس فى إمكانها إنتاج شركات مثل «أبل» و«أمازون» أو السيارة الكهربائية، فإن الصين الآن لديها «على بابا» و«جى 5» وسيارات كهربائية وأقمار صناعية وشركات عملاقة ومشروع كونى «الحزام والطريق».
ما يجعل الصعود الصينى أخاذا هو أنه مصاحب بالخروج الأمريكى من اليابس إلى البحر، وبناء غواصات نووية على الطريقة التقليدية التى كان فيها العالم يعيش على معتاد قائم على سباق التسلح الذى أنهك من قبل الاتحاد السوفيتى، ساعة إنتاج برنامج حرب النجوم. المعتاد الجديد مختلف وأشكاله جديدة يحتاج اكتشافها إلى ما هو أكثر من الكسل، ويرفض اتباع قاعدة أن التاريخ يعيد نفسه، بينما هو جديد تماما.