بقلم - عبد المنعم سعيد
يتملكنى إعجاب بالزملاء الذين يعقبون على الكوارث فور حدوثها، بينما فى حالتى فإن الواقعة تصيب بنوع من الشلل والحزن الشديد على الضحايا والخسائر المادية والردة الفكرية وخيبة الأمل التى تدفع فى اتجاه اليأس والابتعاد عن الأمل. ويكون ذلك كله حاداً فى حادثة القطار، الأسبوع قبل الماضى، والذى خرج عن المسار وترتب على الانحراف انفجار كان ثمنه قتلى وجرحى بالعشرات، ومعهم مبانٍ متصدعة. عندما يحدث هذا، بينما النية والعزيمة الوطنية تسير فى اتجاه بناء مصر براً ونهراً وبحراً وجواً بكل ما يعنيه ذلك من حسابات معقدة، فإن الحادثة تطرح الشك فوراً فيما إذا كانت أولوياتنا صحيحة، فيكون التساؤل عما إذا كان بناء الجديد مفضلاً على إصلاح القديم؟ وعما إذا كان ممكناً تحقيق دفعات إلى الأمام، بينما يشير ما جرى إلى أن «الخلف» يعشش فى مواقع كثيرة ويخرج علينا بين وقت وآخر مُلِحّاً ومُهدِّداً؟ كل هذه التساؤلات مشروعة، خاصة عندما تكون السكاكين حامية بأجساد القتلى وتشوهات الجرحى وصرخات المكلومين، خاصة عندما يستغلها أعداء الوطن ويجدون فيها فرصة لبث السموم والكثير منها عبر عشرات الوسائل الإعلامية والإلكترونية. والحقيقة أن مثل هذه التساؤلات ليست جديدة على العالم أو البشرية كلها، وأذكر أثناء إقامتى للدراسة فى الولايات المتحدة أن التساؤل كان كبيراً عما إذا كان غزو الفضاء مشروعاً والذهاب إلى القمر مفضلاً، بينما الفقر منتشر، والمخدرات والإدمان ذائعة، والكوارث بما فيها التى جرت لمركبات فضائية ممكنة، والتفرقة العنصرية تتسبب فى «جيتو» للفقر والجريمة فى ولايات ومدن متعددة؟.
والحقيقة هى أن التقدم مثله مثل التخلف هو مجمع لكثير من الأسباب، وليس صحيحاً أن التخلف سوف يزول بمعزل عن تحقيق التقدم حتى لو استخدمنا كل وسائل إدارة الفقر تكلفة، فالتقدم فى جوهره بقدر ما فيه من عوائد مادية يمكن قياسها، فإنه أيضاً منظومة فكرية وقيمية فيها الكثير من الانضباط والمحاسبة ومراجعة النفس والإحساس بالمسؤولية. العكس أيضاً صحيح، فحينما ينتشر الفقر والعشوائية فإن المنطقى معهما يكون الفوضى والإهمال والاستسلام لمشاعر الغضب الذى يجعل سائقاً يترك كل شىء لكى يصفى حساباً مع آخر. سوف نترك جانباً «المخدرات»، بعد أن قرر مجلس الوزراء مراجعة الخدمة المدنية لمواجهة تعاطيها، ولكن السائق، والسائق الآخر، وبقية المشاركين فى تحويل القطارات، والقيادات التى تقود وتراقب وتتابع، كل هؤلاء هم نتاج تعليم متخلف، وبيئة متخلفة، واستيعاب فقير للتكنولوجيا، وعجز كامل عن المبادرة، وباختصار فشل معرفى وعلمى وأخلاقى. فى المقابل، فإن المدن الرحبة، والجامعات المرتبطة بالجامعات الأجنبية المتقدمة، والتعليم الراقى المشجع على المبادرة، وانتقال القيم من حافة النهر الضيقة إلى سواحل البحر الفسيح، كل ذلك يخلق منظومة أخرى تأخذ زمانها لكى تستقر وتثمر. رحلات الفضاء الأمريكية، وحتى الصينية إلى الجانب المظلم من القمر، ليست ترفاً ينبغى أن يكرس لإزالة أمراض الأرض لأنها تعلمنا التعامل مع سرعات وأزمان لا تعرفها المعمورة، ومن خلالها عرف الإنسان أنواعاً من الدواء لم نكن لنعرفها ونحن فى أسر الجاذبية الأرضية. التنمية المصرية ربما لا تعرف الكثير عن الفضاء، ولكنها تعرف عن مصر ما لم يكن معروفاً أو لم يمسسه بشر من قبل.
هذه العلاقة «الجدلية» بين التخلف والتقدم هى ما يجب علينا معرفته عندما نواجه كارثة مثل التى جرت. صحيح أن الوهلة الأولى والجراح حارة، فالبحث عن الأسباب المباشرة يصبح طبيعياً. ولكن الغوص فى الموضوع يُظهر فوراً أن الأزمة هيكلية فى النظم والأخلاق العامة وتحمل المسؤولية حتى نصل إلى الغريزة وإدمان المخدرات بقدر ما هى مرتبطة بطبيعة المرحلة التى تمر بها البلاد. وبالتأكيد فإن ذلك ليس تبريراً لما حدث، بل هو لمحاولة فهمه وإدراكه وإعطائنا الإشارات إلى ما يمكن تجنبه، بقدر ما يعطينا العلامات الواجب السير عليها فى عملية البناء. المسألة فى شكلها المباشر ذات طبيعة جنائية يتولاها القضاء لكى يعطى المثل والعبرة ويُجرى العدالة فى مجراها، ولكنها فى شكلها غير المباشر تنظر فى تكرار اللامعقول من الحوادث سواء كانت سفينة غرقت فى نهر النيل، أو سفينة أخرى غرقت فى البحر الأحمر، أو فى حادثة حريق فى قطار الصعيد، ثم الانفجار فى محطة قطار القاهرة. لا يحل معضلتنا أن حوادث مماثلة جرت فى بلدان أخرى لأن مسؤوليتها سوف تقع على الآخرين، أما مسؤوليتنا فهى أن ما جرى لدينا مغموس فى التخلف الذى نعيش فيه وواجبنا الأسمى هو الخروج منه.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع