توقيت القاهرة المحلي 14:21:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

إرهاب التخلف!

  مصر اليوم -

إرهاب التخلف

بقلم - عبد المنعم سعيد

يتملكنى إعجاب بالزملاء الذين يعقبون على الكوارث فور حدوثها، بينما فى حالتى فإن الواقعة تصيب بنوع من الشلل والحزن الشديد على الضحايا والخسائر المادية والردة الفكرية وخيبة الأمل التى تدفع فى اتجاه اليأس والابتعاد عن الأمل. ويكون ذلك كله حاداً فى حادثة القطار، الأسبوع قبل الماضى، والذى خرج عن المسار وترتب على الانحراف انفجار كان ثمنه قتلى وجرحى بالعشرات، ومعهم مبانٍ متصدعة. عندما يحدث هذا، بينما النية والعزيمة الوطنية تسير فى اتجاه بناء مصر براً ونهراً وبحراً وجواً بكل ما يعنيه ذلك من حسابات معقدة، فإن الحادثة تطرح الشك فوراً فيما إذا كانت أولوياتنا صحيحة، فيكون التساؤل عما إذا كان بناء الجديد مفضلاً على إصلاح القديم؟ وعما إذا كان ممكناً تحقيق دفعات إلى الأمام، بينما يشير ما جرى إلى أن «الخلف» يعشش فى مواقع كثيرة ويخرج علينا بين وقت وآخر مُلِحّاً ومُهدِّداً؟ كل هذه التساؤلات مشروعة، خاصة عندما تكون السكاكين حامية بأجساد القتلى وتشوهات الجرحى وصرخات المكلومين، خاصة عندما يستغلها أعداء الوطن ويجدون فيها فرصة لبث السموم والكثير منها عبر عشرات الوسائل الإعلامية والإلكترونية. والحقيقة أن مثل هذه التساؤلات ليست جديدة على العالم أو البشرية كلها، وأذكر أثناء إقامتى للدراسة فى الولايات المتحدة أن التساؤل كان كبيراً عما إذا كان غزو الفضاء مشروعاً والذهاب إلى القمر مفضلاً، بينما الفقر منتشر، والمخدرات والإدمان ذائعة، والكوارث بما فيها التى جرت لمركبات فضائية ممكنة، والتفرقة العنصرية تتسبب فى «جيتو» للفقر والجريمة فى ولايات ومدن متعددة؟.

والحقيقة هى أن التقدم مثله مثل التخلف هو مجمع لكثير من الأسباب، وليس صحيحاً أن التخلف سوف يزول بمعزل عن تحقيق التقدم حتى لو استخدمنا كل وسائل إدارة الفقر تكلفة، فالتقدم فى جوهره بقدر ما فيه من عوائد مادية يمكن قياسها، فإنه أيضاً منظومة فكرية وقيمية فيها الكثير من الانضباط والمحاسبة ومراجعة النفس والإحساس بالمسؤولية. العكس أيضاً صحيح، فحينما ينتشر الفقر والعشوائية فإن المنطقى معهما يكون الفوضى والإهمال والاستسلام لمشاعر الغضب الذى يجعل سائقاً يترك كل شىء لكى يصفى حساباً مع آخر. سوف نترك جانباً «المخدرات»، بعد أن قرر مجلس الوزراء مراجعة الخدمة المدنية لمواجهة تعاطيها، ولكن السائق، والسائق الآخر، وبقية المشاركين فى تحويل القطارات، والقيادات التى تقود وتراقب وتتابع، كل هؤلاء هم نتاج تعليم متخلف، وبيئة متخلفة، واستيعاب فقير للتكنولوجيا، وعجز كامل عن المبادرة، وباختصار فشل معرفى وعلمى وأخلاقى. فى المقابل، فإن المدن الرحبة، والجامعات المرتبطة بالجامعات الأجنبية المتقدمة، والتعليم الراقى المشجع على المبادرة، وانتقال القيم من حافة النهر الضيقة إلى سواحل البحر الفسيح، كل ذلك يخلق منظومة أخرى تأخذ زمانها لكى تستقر وتثمر. رحلات الفضاء الأمريكية، وحتى الصينية إلى الجانب المظلم من القمر، ليست ترفاً ينبغى أن يكرس لإزالة أمراض الأرض لأنها تعلمنا التعامل مع سرعات وأزمان لا تعرفها المعمورة، ومن خلالها عرف الإنسان أنواعاً من الدواء لم نكن لنعرفها ونحن فى أسر الجاذبية الأرضية. التنمية المصرية ربما لا تعرف الكثير عن الفضاء، ولكنها تعرف عن مصر ما لم يكن معروفاً أو لم يمسسه بشر من قبل.

هذه العلاقة «الجدلية» بين التخلف والتقدم هى ما يجب علينا معرفته عندما نواجه كارثة مثل التى جرت. صحيح أن الوهلة الأولى والجراح حارة، فالبحث عن الأسباب المباشرة يصبح طبيعياً. ولكن الغوص فى الموضوع يُظهر فوراً أن الأزمة هيكلية فى النظم والأخلاق العامة وتحمل المسؤولية حتى نصل إلى الغريزة وإدمان المخدرات بقدر ما هى مرتبطة بطبيعة المرحلة التى تمر بها البلاد. وبالتأكيد فإن ذلك ليس تبريراً لما حدث، بل هو لمحاولة فهمه وإدراكه وإعطائنا الإشارات إلى ما يمكن تجنبه، بقدر ما يعطينا العلامات الواجب السير عليها فى عملية البناء. المسألة فى شكلها المباشر ذات طبيعة جنائية يتولاها القضاء لكى يعطى المثل والعبرة ويُجرى العدالة فى مجراها، ولكنها فى شكلها غير المباشر تنظر فى تكرار اللامعقول من الحوادث سواء كانت سفينة غرقت فى نهر النيل، أو سفينة أخرى غرقت فى البحر الأحمر، أو فى حادثة حريق فى قطار الصعيد، ثم الانفجار فى محطة قطار القاهرة. لا يحل معضلتنا أن حوادث مماثلة جرت فى بلدان أخرى لأن مسؤوليتها سوف تقع على الآخرين، أما مسؤوليتنا فهى أن ما جرى لدينا مغموس فى التخلف الذى نعيش فيه وواجبنا الأسمى هو الخروج منه.

نقلا عن المصري اليوم

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إرهاب التخلف إرهاب التخلف



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 10:34 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024

GMT 10:38 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر

GMT 10:52 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

GMT 09:38 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 21:45 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

فجر السعيد تفتح النار على نهى نبيل بعد لقائها مع نوال

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 20:43 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

الأمير هاري يتحدث عن وراثة أبنائه جين الشعر الأحمر

GMT 20:11 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

تكريم توم كروز بأعلى وسام مدني من البحرية الأميركية

GMT 09:56 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 12:18 2016 الإثنين ,12 كانون الأول / ديسمبر

الروح والحب والإخلاص " ربنا يسعدكم "

GMT 23:59 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

اتفاق مبدئي على إعادة تشكيل السلطة التنفيذية في ليبيا

GMT 18:11 2024 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

3 تحديات تنتظر الزمالك قبل غلق الميركاتو الصيفي

GMT 07:33 2019 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

"سيسيه يؤكد رفضت عروضا من أجل البقاء مع "الاتحاد

GMT 05:59 2024 الأحد ,14 تموز / يوليو

محمد النني يقترب من الدوري السعودي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon