بقلم : د. عبد المنعم سعيد
الثورة هى تغيير جذرى فى طبيعة وتشكيل المجتمع، ما قبل ذلك لا يزيد على كونه تغييرا فى القائمين على السلطة فى الدولة حتى لو جرى الانتقال من الملكية إلى الجمهورية، أو من نظام برلمانى إلى آخر رئاسى، أو من نظام الحزب الواحد إلى نظام متعدد الأحزاب. ولم يصبح التغيير فى 23 يوليو 1952 «ثورة» عند الإطاحة بالنظام الملكي، أو عندما تم إلغاء تعدد الأحزاب وجاء التنظيم السياسى الواحد لهيئة التحرير ومن بعده الاتحاد القومى ثم الاتحاد الاشتراكى العربى. أصبح التغيير «ثورة» ليس فى يوم واحد، وإنما عبر سلسلة من الإجراءات التى بدأت بقانون الإصلاح الزراعى ولم تنته مع القوانين الاشتراكية التى خلقت القطاع العام بتأميم ما كان خاصا والتوسع فى تدخل الدولة فى الاقتصاد والتعليم والصحة. لم تعد مصر كما كانت، واستقرت فيها قيم جديدة لم تكن موجودة من قبل كلها تدور حول الدولة ودورها فى تشكيل المجتمع وأكثر من ذلك البشر والمواطن الصالح. وفى حقيقة الأمر فإن ما جرى فى 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 كانتا لهما غرض مباشر وهو «إسقاط» النظام، ومن خلالهما جرت محاولة الثورة إلى الخلف عن طريق دستور 2012 الذى كان يأخذ البلاد فى اتجاه الدولة الدينية، ثم الثورة إلى الأمام عن طريق دستور 2014 الذى ينتوى أخذ البلاد فى اتجاه دولة متقدمة.
ولكن الدساتير فى عمومها إعلان نوايا وتوجهات المجتمع وتوافقه العام خلال فترة زمنية بعينها، وكان تغييرها خلال عامين فى مصر دلالة على الحيوية التى ألمت بالمجتمع المصرى خلال مطلع العقد الحالى إلى درجة المراجعة السريعة التى صححت وجود الإخوان فى السلطة، ثم بعد ذلك التوجه نحو مرحلة تالية من التاريخ المصري. الثورة بدأت حقا من خلال سلسلة من التوجهات السيادية التى أخذت البلاد من النهر إلى البحر، وأضافت إلى إدارة الفقر إدارة الثروة أيضا، ودعت النخبة إلى تجديد الخطاب الديني، وهزت من الجذور التعصب ضد المرأة والأديان الأخري. هناك ما هو أكثر، يمكن أن يقال من تفاصيل ما جرى من تغييرات جذرية فى المجتمع المصري؛ وبالتأكيد فإن ما يجرى حاليا من التعامل مع شركات قطاع الأعمال العام وطرحها ولو جزئيا للملكية الخاصة للأسهم هو تحول يستكمل حلقات سابقة فى تعويم العملة، وتقليص الدعم، وإصلاح الجهاز الحكومى وتجهيزه بالتحديث حتى ولو اقتضى الأمر بناء عاصمة جديدة تبدأ من بداية جديدة للبيروقراطية المصرية. كل ذلك يمثل مشهدا أوليا من الثورة والتى يتلوها مشاهد أخرى عندما تتجذر كل هذه الاتجاهات، ويبدو واضحا فيها أنها ليست قابلة للعودة مرة أخرى إلى حيث أتت. الثورة بشكل ما هى عملية مستمرة ليست بالهتافات والمظاهرات والمليونيات، وإنما من أجل التقدم واللحاق بالعصر.
الثورة الراهنة فى مصر لن تكتمل ما لم تصل إلى تحقيق «اللامركزية» فى البلاد، وفى هذه الحالة لن تكون الثورة على حكم الإخوان، أو على حكم يوليو، أو على الفقر والجهل والمرض، وإنما بتغيير الطريقة التى أديرت بها مصر منذ فجر التاريخ حينما لم تكن فقط أول دولة فى التاريخ، وإنما تحديدا أول دولة مركزية فى التاريخ. كان الأمر مبررا تماما، لأن إدارة مياه النيل وتوزيعها على المزارعين والأرض الزراعية كان جوهر المُلك ووظيفة السلطان؛ الفرعون كان، أو ممثلا لإمبراطور أو ملك، أو واليا عن خليفة، أو ملكا أو رئيسا.وفى العصور الحديثة فإن مد مياه النيل من خلال الترع، وإقامة السدود والقناطر، كلاها كان دورانا للسلطة والشعب حول النهر الخالد. ولكن ما كان مبررا على مدة آلاف السنين لم يعد كذلك الآن، وفى أعلى فترات الرخاء فى مصر الفرعونية كان عدد السكان يتراوح بين 8 و10 ملايين نسمة، وبعدها ظل العدد يتراجع حتى وصل مع غزوة نابليون لمصر إلى اثنين ونصف مليون نسمة نتيجة الفقر والمرض. الآن تجاوزت مصر 100 مليون نسمة، ولن يمر وقت طويل حتى نصل إلى 150 مليونا. ومع الانتقال من النهر إلى البحر عبر مشروعات قناة السويس وتنمية الساحل الشمالي، وما سيتبع اكتشافات الغاز والبترول فى شرق البحر المتوسط فإن تغيرا جذريا سوف يحدث فى تركيبة الجغرافيا الاقتصادية لمصر، وهذه تفرض علينا تغييرا فى الجغرافيا السياسية للبلاد.
لقد كان آخر التغييرات الاقتصادية التاريخية الكبرى التى جرت فى مصر هى التى تلت حفر قناة السويس والذى تولد عنه ثلاثة مدن مهمة: بورسعيد والاسماعيلية والسويس. الآن فإن التغيرات الاقتصادية بسبيلها لكى تضيف مدن شرم الشيخ والغردقة والعلمين وأكثر من 14 مدينة أخري، تضاف إلى 31 مدينة جرى بناؤها خلال العقود السابقة، كلها تفتح الباب للتفكير فى مراجعة الحالة المركزية للدولة المصرية. هذه المراجعة لابد وأن تكون شاملة ولا تقتصر فقط على عملية اختيار المحافظين، وتأهليهم لإدارة المحافظات ليس فقط من الناحية الأمنية، وإنما وهو الأهم من الناحية التنموية. ومادام أن الدولة مع الحقائق الجديدة قد قررت السعى الجاد لتحقيق معدل نمو قدره 8%، فإن ذلك لم يكون فقط نتيجة جهد القطاع الخاص، والمؤسسات العامة بما فيها القوات المسلحة، والقطاع الأهلي؛ وإنما نتيجة القدرة على تعبئة الموارد البشرية والمادية وتعظيم النمو فى كل محافظة على حدة. هذه المهمة شاقة، ولكنها ممكنة، وبدونها فإن الثورة لا تكتمل، والثورات التى لا تكتمل غالبا ما تنتهى إلى تراجع. وفضلا عما هو موجود ومتاح فى المحافظات المصرية الآن حول نهر النيل، فإن فى كل محافظة ساحلية مصرية فيها من الموارد والقدرات ما يزيد على ما هو موجود فيما يماثلها فى العالم سواء كان ذلك فى سنغافورة أو هونج كونج أو تايوان أو دولة الإمارات العربية. اللامركزية هى الخطوة التالية فى سلسلة مشاهد الثورة المصرية الحالية، وهى لا تقل فى أهميتها ومحوريتها عن كل المشاهد السابقة من حيث التأثير على المجتمع المصرى، ومكانة الدولة المصرية فى الخارج.
نقلًا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع