بقلم : د. عبد المنعم سعيد
الأسبوع الماضى كان أسبوع الأرقام المصرية، والمناسبة كانت زيارة بعثة صندوق النقد الدولى الدورية لتقييم حالة الاقتصاد المصري، والتمهيد لدفع الشريحة الرابعة من قرض الصندوق لمصر والبالغة 12 مليار دولار. والجوهر أن قيادة البعثة والسيد «ليبتون» خاصة لم يبخل فى الحديث، ومعه باقى الفريق كل فيما يخصه، وكان ذلك فاتحا للشهية لدى القيادة المصرية كلها من الرئيس السيسى إلى رئيس الوزراء إلى الوزراء إلى قيادة البنك المركزي؛ وكأن كل ذلك لم يكن كافيا فقد كانت هناك أيضا زيارة من البنك الدولى أضافت للاحتفال بالأرقام المصرية احتفالا آخر. الأرقام كلها كان فيها شعور بالارتياح أن الاقتصاد المصرى استجاب للعلاج المر، وجاء المردود على كل المؤشرات الكلية الرئيسية من عجز الموازنة إلى الاحتياطى القومى إلى العجز فى الميزان التجارى إلى تحقيق الفائض فى ميزان المدفوعات إلى حجم الإيداعات النقدية لدى البنوك، وهكذا أرقام. الصورة الكلية كلها مبشرة، وظهرت على وجوه وفى عيون المسئولين أن أصعب المراحل أصبحت خلفنا، وأن ما سوف يليها لن يكون معركة إنقاذ وإنما حرب انطلاق. ولأول مرة أصبح ترديد أرقام لمعدلات النمو تتعدى نسبة 7% لا تقال على سبيل التمنى وإنما لأن فى الاقتصاد ما يتحرك بالفعل فى هذا الاتجاه.
السؤال الذى بدا أنه يدفع بالدماء إلى رءوس المسئولين، ويولد نوعا من التعثر فى الحديث، والحيرة فى القول، هو الذى يأتى دائما إلى شفاه جمع الإعلاميين فى مصر ويجرى على النحو التالي: كل هذا كلام جميل، وشيء يبعث على الفرحة أن تكون أرقام مصر على هذا النحو، ولكن (هنا تأتى «القفشة» الخاصة بالإعلامى) الإنسان «العادى» (وهو شخصية مجهولة غير معرفة ولا محددة ولا تعرف أبدا أين يقيم ولا ماذا يعمل، ولكن يمكنك الاستنتاج فى نهاية الكلام أنه إنسان جائع ومريض وعلى شفا الانهيار) يتساءل ماذا كانت الاستفادة التى أتت إلى من كل هذه الأرقام العظيمة؟ ويضيف الإعلامى إلى ذلك أن المواطن يسأل ما الذى دخل إلى جيبى من هذه الأرقام؟ المسئول عادة رغم تكرار هذا السؤال يؤخذ على غرة، وعادة فإنه يعيد ترديد نفس الأرقام مرة أخرى مرددا أنه مادام أن البطالة هبط معدلها فلا بد أن الانسان الذى حصل على عمل استفاد بشكل أو بآخر، أو أن انخفاض التضخم لا يعنى بالطبع أن السلع سوف ينخفض سعرها وإنما أن معدل ارتفاع سعرها سوف يكون أقل. الإعلامى فى هذه الحالة إما أنه يترك المسئول وشأنه مع ابتسامة خفيفة، أو أنه سوف يستمر فى الضغط أن كل الناس تئن ولما أن كثيرا منهم لا يبحث عن عمل لأنه يعمل بالفعل فإنه لن يسعد كثيرا لأن شخصا آخر حصل على عمل. فى معظم الأحوال فإن اللقاء ينتهى وقد باتت الأرقام مسطحة لا تعنى الكثير وكأنها تخص شعبا آخر مادام أن المذيع أو الصحفى لم يشاهد شخصيا إنسانا مصريا وقد انتفخت حافظة نقوده نتيجة الانخفاض فى عجز الموازنة!.
السيد محافظ البنك المركزى طارق عامر فطن إلى الملعوب فى لقاء تليفزيونى فى حضور السيد ليبتون ومعالى وزير المالية الجارحى مع الأستاذ عماد أديب فى برنامجه الشهير «كل يوم» ومن ثم اقترح أنه لا يمكن التعرف فقط على تأثير الأرقام من خلال تأثيرها على الأفراد وإنما من خلال النظر إلى القطاعات المختلفة. فالسياحة زادت ومن ثم فإن العاملين فيها حصلوا على فوائد مباشرة (لم يذكر المحافظ أرقاما تتعلق بالسياحة خوفا من الحسد)، وهكذا الحال فى قطاعات التشييد والبناء، والصادرات، والصناعات والمنتجات الغذائية بصفة عامة. الصورة بهذه الطريقة تقربنا من العاملين فى قطاعات معينة، ويصبح الاستنتاج أنه مادام تصاعد الدخل فى هذه القطاعات فإن العاملين فيها عاد عليهم من الزيادة جانب. مثل هذه الإجابة استخدمتها مع الأستاذ عمرو أديب فى حديث تليفزيونى معه منذ فترة، ويبدو أنه لم يقتنع بما قلته آنذاك لأنه طرح ذات السؤال مرة أخري، وربما أنه يفعل ذلك لأنه لا يرى فى إجابة القطاعات هذه ما يقنع المواطن الذى يتخيله. ولذلك لا بد من قدح الذهن للبحث عن الإجابة التى تجعل «المواطن العادى» مرضيا.
أذكر أن الرئيس السيسى رد على ذات الأسئلة بقوله إن أرقام زيادة توليد الطاقة تعنى عدم انقطاعها، ولا بد فى هذه الحالة أن كل المواطنين سوف يستمتعون بالكهرباء التى لا تنقطع حيث يتوافر الضوء والمشاهدة التليفزيونية فى كل الأوقات فيستطيع «المواطن العادى» أن يرى الأستاذ عمرو أديب الذى سوف نفتقده كثيرا حينما يترك برنامجه الحالي. هنا نبدأ فى الاقتراب من الإجابة التى تحل معضلة الأرقام والمواطن لأن إجابة الكهرباء لا تكفى فبعد قليل فإن وجود الكهرباء يصبح من طبيعة الأشياء ولن يلحظ أحد أنها جاءت لأنها فى الأصل لم تنقطع. هنا فإن مزيدا من التفاصيل عن القطاعات المختلفة للاقتصاد القومى سوف تكون مفيدة إذا ما تضمنت نصيب الأجور فيها وأجر الفرد فى المهن المختلفة داخل القطاع الذى شهد مزيدا من النمو. ففى قطاع التشييد والبناء فإن أجور العاملين خلال الفترة الماضية تضاعفت، وهكذا العاملون فى مجالات الطاقة المختلفة، وهكذا مجالات متعددة سوف يزيدها اقترابا من حقيقة منفعة المواطن إذا ما جرى رصد نصيب المحافظات وحتى المراكز المختلفة من الزيادات المحققة فى القطاعات المختلفة. فى هذه الحالة فإن الإجابات سوف تكون أكثر مصداقية، إذا ما أشرنا إلى القطاعات التى تضررت نتيجة تدهور دخلها الحقيقى مثل أصحاب المعاشات، والعاملين فى الحكومة، وأصحاب الدخول الثابتة، والفقراء بصفة عامة؛ وساعتها فإن سياسات الحكومة للحماية الاجتماعية سوف تحدد بشكل دقيق ما يحصل عليه الانسان العادى من فائدة جاءته من الموازنة العامة التى أصبحت أحسن حالا بحيث تستطيع تقديم هذه الحماية له. هل سيرضى الإعلامى النبيل بهذه الإجابة؟ بصراحة لا أدري!.
نقلا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع