بقلم : د. عبد المنعم سعيد
كثيرون سوف يشعرون بخيبة الأمل الشديدة بعد مشاهدة فيلم «الملاك» الذى خرج إلى الوجود بعد انتظار طويل، لعله يكشف أو يبوح شيئا فى قصة مثيرة من الحقيقة إلى الخيال. ما يجمعهم جميعا هو رداءة «الفيلم» من حيث كونه فيلما لا علاقة له بالتاريخ، أو حتى بالكتاب الذى قيل إنه كان هاديا ومرشدا لما سوف يأتى من تمثيل ودراما وأحداث لها علاقة بالحروب الكبرى وما يجرى فى ميادين المعارك، وما يحدث فى أروقة المخابرات. الجميع أيضا يعلمون أن كتاب «أورى بار جوزيف» هو فى حد ذاته جزء من هذه المعركة الصامتة التى لا تزال جارية بين مصر وإسرائيل والتى فيها تاريخ من الصراع، واتفاقية سلام، وتعاون وتنافس يليق بالحقيقة المعقدة والمركبة للعلاقات الدولية.
وما جاء عليه من تعليقات مصرية وعربية كشفت هى الأخرى عن مكنونات التناقض الداخلى بين هؤلاء الذين لا يفصلون بين وقائع أشرف مروان والمفاجأة الاستراتيجية لحرب أكتوبر كلها، وهؤلاء الذين يصغرون بالوقائع حتى تجعل الرجل لا يزيد عن كونه زوج بنت الزعيم و«الجاسوس» فى نهاية الأمر. كان «الفيلم» أقل من كل أنواع الحوارات فى تمثيله وفى تصويره وفى تحركاته، لم يرق لأى مستوى من مستويات أفلام المخابرات أو الأنبياء أو الخونة. كان باختصار فيلما من أفلام المقاولات، رخيصة التكاليف، مفتعل من أوله لآخره، سقيم فى لغته ولهجته فى الحوار أو فى السياسة.
الأستاذ طارق الشناوى ربما يكون أفضل من كثيرين فى تقييم الفيلم كعمل فنى، ولكن إذا كان عملا سياسيا فإنه وإن تبنى وجهة النظر الإسرائيلية، فإنه حاول أن يمزجها ببعض من وجهة النظر المصرية. ربما كان أشرف جاسوسا كما عرفه الإسرائيليون، ولكنه كان أيضا باحثا عن السلام، وكانت له وجهة نظر فى تسيير مصر وإدارة الصراع مع إسرائيل تختلف عما كان يفعله الزعيم عبد الناصر، أو هكذا أراد الفيلم أن يقدم نوعا من الترضية للجماهير التى ستشاهد الفيلم بطول العالم العربى وعرضه. لم يكن أشرف كله خائنا كما أراد له «بار جوزيف» أن يكون، أو كان منفعلا حاقدا على القائد الذى لم يثق فيه أبدا؛ ولكنه كان خلطة تجمع ما بين نقل المعلومات، وما بين تنفيذ «استراتيجية الذئب» الذائعة فى كتب الأطفال.
كان حالة نفسية من الاضطراب العائلى، ورغبات الشباب فى الثورة والشهوة والثروة أيضا. هذه الشخصية الحائرة بين الحزم والتردد تظهر فى النصف الأول من الفيلم وكأنها حسمت أمرها، فتستغل جنازة الرئيس لكى تحصل على أسرار للبيع من ناحية، وتقترب من الرئيس الجديد من ناحية أخرى. الأرجح أن صناع الفيلم تابعوا «المناظرة» الجارية فى داخل مصر والعالم العربى من ناحية، وإسرائيل من ناحية أخرى، وقرروا أيا ما يكون النذاق الفنى فإن خلطة من كل وجهات النظر ربما تزيد عدد المشتركين فى شبكة «نيتفليكس» التى صنعت الفيلم، فى منطقة بكر.
لم يظلم الفيلم الحقيقة الوطنية لأشرف مروان فقط، ولكنه ظلم معه التاريخ المصرى فى واحدة من أعظم لحظاته، وبشكل متعمد فى أنه غطى على أصل الحكاية كلها وهى أن الإسرائيليين، ومعهم بالمناسبة الأمريكيين، كانوا على اقتناع كامل بأن المصريين ليست لديهم مقدرة الحرب ولا إرادتها ولا المعدن الذى يتحمل حرارتها العالية. كانت الاستراتيجية المصرية هى تثبيت هذه المفاهيم حتى تكون المفاجأة الكبرى، والمبادرة العظمى. كان دور أشرف مروان أساسيا فى هذه المهمة، وكان الإسرائيليون هم الذين كانوا على استعداد لابتلاع الطعم، لأنهم لم يكن لديهم- لحسن الحظ- استعداد لقبول غير ذلك.
كان قادة إسرائيل على درجة من العمى التى تصورت أن ما جرى فى يونيو ١٩٦٧ هو القاعدة، وما غيرها إلا نشاز، تماما كما كنا نحن أيضا نظن ذات يوم أن إسرائيل «مزعومة» ولا تزيد عن «قبض ريح». قصة أشرف مروان لم تحكِ بعد، وأوانها سوف يأتى ذات يوم، ورغم أن الحكاية ركزت كثيرا على علاقته بإسرائيل، فإن الفصول الأخرى سوف تأتى بتفاصيل ما حدث فى تسليح مصر، وما جرى بعد الحرب كلها، فلم تكن هناك صدفة أن أشرف ترك الخدمة فى عام ١٩٧٨ بعد أن دخلت المنطقة فى تاريخ جديد!.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع