بقلم : د. عبد المنعم سعيد
أكتب هذا المقال صباح يوم الجمعة الماضي، وقد تكاثرت الأنباء عن عزم الولايات المتحدة على ضرب سوريا ـ بشار الأسد ـ عقابا لها على استخدام الأسلحة الكيماوية ضد المواطنين فى مدينة «دوما» السورية. وسواء كانت الضربة سوف تكون مقدمة لضربات أخري، أو أنها تغطية على قرار أمريكى بالانسحاب من سوريا، فإن مثل هذه الحالة تضع مصر وحلفاءها فى وضع حرج. فمن ناحية لا يوجد موقف دولى ناجم عن قرار من مجلس الأمن يعطى شرعية للهجوم الأمريكى بعد الفيتو الروسي؛ ومن ناحية أخرى فإن مصر والعالم العربى كله الآن يريد الحفاظ على الدولة السورية وسلامتها الإقليمية. ولما كانت الضربة سوف تضعف سوريا، وتزيد اعتمادها على روسيا وإيران وتركيا، فإنها لن تكون أكثر قوة بعد الضربة أيا كان حجمها. أكثر من ذلك أن الحفاظ على الدولة السورية لا يعنى إطلاقا التفريط فى حياة السوريين الذين يعانون من الضربات الكيماوية خلال السنوات الماضية رغم أن الحكومة السورية أعلنت تخليها كلية عن السلاح الكيماوى فى اتفاق باشرت عقده روسيا بين سوريا والمجتمع الدولي. هنا تحديدا توجد إشكالية أخلاقية كبري، على مصر وحلفائها العمل على حلها بحيث يكون الموقف المصرى ليس فقط إدانة العدوان الأمريكي، وإنما أيضا تأكيد أن النظام السورى عليه ـ بحكم واجباته القومية والوطنية ـ أن يحافظ على سلامة الشعب السورى فلا يستخدم ضده أسلحة الدمار الشامل بما فيها الأسلحة الكيماوية.
هنا فإن البحث عن الحقيقة واجب الأجهزة المعنية فى مصر وفى العالم؛ وحتى الآن فإن التعبيرات المصرية عن الهجمات الكيماوية تضيف لها تعبيرات «المزعوم» أو «المفترض» وهو وصف دقيق مادام أنه لا يوجد قرار دولى يمكن الاستناد إلى حكمه. ومع ذلك فإن منظمة الصحة العالمية نقلت عن مصادرها الطبية فى سوريا أن أعراض التسمم الكيماوى ظهرت على 500 مريض تم علاجهم بعد الهجوم الكيماوى «المفترض» حدوثه فى منطقة دوما بالغوطة الشرقية. الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية والغربية فى عمومها أخذت بوجهة النظر التى ترى أن هجوما كيماويا قد جري. ومع وجهة النظر هذه تم استدعاء تاريخ اعترفت فيه السلطات السورية باستخدام الأسلحة الكيماوية فى الحرب الأهلية والتى نجم عنها قرارات دولية بنزعها، وبعد ذلك تكرر الأمر فى هجمات متفرقة أنكرتها سوريا وساندتها روسيا فى إنكارها. ما تحتاجه مصر والدول العربية الأخري، الخروج من دائرة الحرب الباردة الجديدة بين روسيا وأمريكا، والبحث عن طرق مستقلة للبحث فى الموضوع واتخاذ مايلزم بشأنه. ولا يعنى ذلك بأى معنى التفريط فى الدولة السورية أو تمزيقها، لأن ثمن السكوت سوف يكون أكثر فداحة؛ ويعنى مطالبة الدولة السورية وهى تحاول الخروج من مرحلة الحرب الأهلية أن تتوقف عن الممارسات التى أدت إلى الحرب الأهلية فى المقام الأول.
لقد مرت سوريا بتجربة مريرة خلال السنوات السبع الماضية فكانت الحرب الأهلية بين الدولة ومعارضيها، وبين الشيع والأحزاب، وبين الجميع والإرهابيين، وتمزق الجيش العربى السورى إلى جيش الدولة والجيش الحر، وهذا الأخير انقسم ما بين الذين يحاربون مع الأكراد، والذين يحاربون ضدهم مع تركيا، وتدخلت روسيا وباتت الدولة الحامية للنظام، ومعها أتت القوات الإيرانية، ومن بعدها القوات التركية، ومع إيران وتركيا جاء حزب الله وجماعات داعش والقاعدة وبالطبع الإخوان المسلمون. وسواء كان الأمر كله «مؤامرة» أجنبية على الدولة الوطنية؛ أو أنها كانت نتيجة ضعف هذه الدولة وفشلها فى تكوين جبهة وطنية فاعلة واعتمادها على الأقلية العلوية وحزب البعث، فإن النتيجة كانت مدمرة للبشر والحجر. فاقت الخسائر السورية فى الحرب نصف المليون من القتلى والملايين من الجرحي، و14 مليونا من اللاجئين والنازحين، ودمرت مدن تاريخية، وقامت دولة للخلافة المزعومة كانت كارثية على العرب والمسلمين وعلى سوريا قبلهم.
وعندما يحدث كل ذلك فإن طرفا ما لا بد أن يتحمل المسئولية، ومع التسليم بالدور الذى لعبته الأطراف الخارجية خاصة تركيا وإيران، فإنه لا يمكن إعفاء النظام السورى من المسئولية حتى ومصر فى ذات اللحظة تدين العدوان الأمريكى وتطالب إسرائيل بالابتعاد عن الأراضى السورية. هنا فإن الموقف الأخلاقى والسياسى المصرى لا يمسك العصا من المنتصف، وإنما يضع موقفا متكاملا يصلح للعمل السياسى يقوم على الحفاظ على الدولة السورية، ولكنه فى نفس اللحظة يطلب من النظام السورى أن يتحمل مسئولياته التى يدعيها عن الشعب السورى بجميع أطيافه وطوائفه. مثل هذا الموقف ضرورى حتى بالنسبة للقضية الفلسطينية والمواجهة الحالية على حدود غزة مع إسرائيل، حيث لا يمكن مطالبة المجتمع الدولى بإدانة إسرائيل كما هو واجب، بينما تغض الطرف عن الاستخدام المتجاوز للقوة فى مواجهة الشعب السوري، مع احتمال استخدام الأسلحة الكيماوية. مثل ذلك يعبر عن الاتساق المصرى الأخلاقى والسياسى فى سياستها الخارجية، وفى رؤيتها لحل المسألة السورية استنادا إلى مباديء تحافظ على الدولة؛ وتكفل التغيير وحماية الأقليات من ناحية أخري.
الجامعة العربية رغم متاعبها الراهنة ربما تكون المنصة العربية الملائمة للتعامل مع تداعيات الموقف السورى خاصة إذا ما جرت المشاورات والمواءمات اللازمة مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية وعدد من الدول العربية الأخرى مثل الأردن والمغرب، والتى يمكنها المشاركة فى وجهة النظر هذه. فالمطالبة الجماعية أولا بوقف إطلاق النار بين جميع الفرقاء ضرورة حتى يمكن السير على طريق مفاوضات ناجحة؛ وثانيا فإن انسحاب قوات الدول الأجنبية مطلوب دون استثناء؛ وثالثا العودة إلى مفاوضات جنيف التى تفرض على جميع الأطراف فى الأزمة السورية وضع دستور يكفل الحقوق لجميع السوريين، ويتيح عملية انتخابية يمكن للنظام الحالى المشاركة فيها تحت إشراف الأمم المتحدة. وهكذا يمكن طرح الموقف الأخلاقى المصرى والعربى بحيث يكون منهجا سياسيا يضع الأزمة كلها على طريق الحل، وربما فى الطريق يخلق نموذجا يمكن استخدامه فى حل باقى معضلات ما بعد «الربيع العربي» المزعوم.
نقلا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع