بقلم : عبد المنعم سعيد
كان الحديث أشبه بالصرخة عندما قالت «ليزا شيني» - ابنة ديك شيني نائب الرئيس الأميركي السابق ومسؤولة الدبلوماسية العامة في وزارة الخارجية الأميركية سابقا - إنها لا تتخيل أن يأتي قادة طالبان إلى كامب ديفيد ويضعون أقدامهم فيها وهي المكان الذي جرت فيه أولى المشاورات التي عقدها مجلس الأمن القومي الأميركي لمواجهة ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 من دمار في نيويورك وواشنطن. أصبح الأمر كما لو كان أن يمشي القاتل في جنازة المقتول خاصة أن الذكرى الثامنة عشرة لأحداث هذا اليوم كانت على الأبواب قبل أسبوع. ولكن ذلك تحديداً هو ما كان في طريقه للحدوث، أن يستقبل الرئيس دونالد ترمب وفدا من طالبان في «كامب ديفيد» على الطريق لعقد اتفاقية سلام تنسحب في أثرها الولايات المتحدة من أفغانستان. كان اختيار المكان بالطبع مقصوداً، ففي هذا المكان تحديداً جرت واحدة من أشهر مباحثات السلام وأكثرها تعقيداً في زمن الرئيس جيمي كارتر بين وفد مصري برئاسة الرئيس أنور السادات ووفد إسرائيلي بقيادة رئيس الوزراء مناحيم بيغين؛ وأسفرت المباحثات عن إطار للسلام وضع الأساس لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي أصبحت النجمة الزاهرة في تاريخ الرئيس الذي حصل فيما بعد على جائزة نوبل للسلام. وربما كان ذلك هو الذي دار في ذهن الرئيس الأميركي الحالي عندما سعى إلى الجمع بين القادة الأفغان، فهو من ناحية كان يسعي لتحقيق السلام في أفغانستان، ويوفي بوعد انتخابي من ناحية أخري، يحقق الانسحاب الأميركي من هذه الدولة بعد حرب استمرت ثمانية عشر عاما، هي الأطول في التاريخ الأميركي.
ولكن الحرب لا تزال مستمرة، أو على الأقل فإن جماعة طالبان يريدون لعملية السلام أن تحدث بينما يحاربون في الوقت نفسه. وكان ذلك ما حدث، وبينما كان القادة في طريقهم إلى واشنطن إذا بهم يفجرون عربة مفخخة في كابل عاصمة أفغانستان، سقط فيها جندي أميركي إليس باريتو أرتيز كان السادس عشر من القتلى الأميركيين هذا العام. القتلى الأفغان في العملية كانوا بالعشرات الذين يضافون إلى عشرات ومئات قبلهم حصدتهم طالبان دون أن تطرف لها عين.
الأرجح أن الهدف من العملية في وقت المفاوضات كان مقصودا أن تستمر المنظمة الإرهابية في الضغط على ترامب ومفاوضيه من أجل أن يسحب تأييده تماما للحكومة الأفغانية الشرعية ولا يصمم على أن تكون طرفا آخر في المفاوضات. لم يكن الرئيس الأميركي على أي حال مستعدا لقبول هذه الصفقة، فأعلن عن موتها؛ ولم تكن هذه هي المرة الأولي التي يجد نفسه عاجزا عن وقف تورط أميركي في حرب، فقد سبق هذه المحاولة للانسحاب من أفغانستان إعلان له بالانسحاب من سوريا، ولكنه سرعان ما وجد ذلك مستحيلا وبقيت القوات الأميركية في العراق وسوريا بينما مفاوضات متعددة جارية وتتوقف من وقت لآخر.
حروب اليوم ليست من النوع القابل للانتهاء، فمنذ سقط برجا مركز التجارة العالمي في نيويورك، بدأت نوعية جديدة من الحروب التي لا تشنها دول وإنما منظمات عابرة للحدود، ولديها من التعصب والكراهية ما يعطيها قوة دافعة للاستمرار. أصبح ذلك شكلا جديدا من الحروب التي تستخدم فيها القوة العسكرية بالقدر الذي يولد فزعا وذعرا وخوفا وأهدافا سياسية، وكل ذلك بتكلفة قليلة. فمن الناحية العسكرية البحتة فإنه في الوقت الذي انتهت فيه الحروب بين الدول تقريبا، باتت تكلفة الحرب ضد الإرهاب أقل كما وكيفا من تكلفة ضحايا حوادث الطرق، أو الموتى بسبب السمنة. ومع ذلك فإن ترامب أراد إعطاء إشارة إلى قدرته على سحب قواته مرة من سوريا ومرة أخرى من أفغانستان، وفي كل مرة فإن المحاولة لا تنجح بسبب المعارضة الداخلية (وزارة الدفاع والمخابرات)، وتطورات الظروف على أرض المعارك نفسها. فالحقيقة هي أن طالبان رغم سعادتها بالشرعية التي حصلت عليها من المفاوضات مع الولايات المتحدة، وتلك التي استمتعت بها بالمفاوضات مع الصين وروسيا، فإنها تظل منظمة إرهابية عاجزة عن تولي مسؤوليات الدولة بكل ما يعنيه ذلك من تعقيدات. وبالطبع فإن ما جرى في المفاوضات التي دارت في معظمها في الدوحة القطرية لا يزال غير معروف؛ ولكن ما تسرب هو أمر واحد يتعلق بانسحاب 5000 جندي أميركي فورا من 14 ألف يتم سحبهم على مراحل فيما بعد. ولكن المقابل الذي أذيع يتعلق بطلب الولايات المتحدة ألا تقوم طالبان باستضافة الجماعات الإرهابية مثل «القاعدة» لا يبدو واضحا حتى الآن أكثر من أن المنظمة الأفغانية سوف تمنع هذه المنظمات من الاعتداء على الجنود الأميركيين. هو نوع إذن من وقف إطلاق النار المؤقت، وما عدا ذلك فإن التنظيم المنوط به تقييد المنظمات الإرهابية ربما يكون في الواقع أسيرا لها.
وقبل ثمانية عشر عاما كانت الولايات المتحدة واقفة عند النقطة نفسها مع طالبان عندما طلبت واشنطن منها أن تتخلى عن «القاعدة» حتى لا تشن الحرب عليها، فما كان من طالبان سوى التهرب من الطلب، فكان الغزو الأميركي الذي انتهى والحال في الدولة الأفغانية كما كان، حيث تستولي طالبان على نصف الأراضي الأفغانية، وفي الجوار منها يوجد تنظيم «القاعدة» الذي يبدو أنه في حالة حرب مع تنظيم «داعش» في أفغانستان وأكثر من منطقة في العالم.
مفتاح هذه الحالة الجديدة من حالات العلاقات الدولية كان التساؤل الذي طرحه ترمب: «كم من العقود هم على استعداد للقتال؟». مثل هذا السؤال جدير بدولة لأنها كتنظيم إنساني للجماعة البشرية تحاول أولا أن تحافظ على هذه الجماعة، وهي ثانيا إذا ما دخلت في حرب فإنها تشعر بالخسارة مع سقوط كل مواطن فيها، وتأسف على إذا ما دُمرت لها مدن، وهي في كل الأحوال تحاول أن تقيم علاقات عادلة مع الدول الأخرى على أسس تحكمها توازنات القوى أو القواعد الدولية المعتبرة. الأمر ليس مثل ذلك مع طالبان ورفاقها من التنظيمات الإرهابية الأخرى، فهذه ليست دولا ولا حتى حركات للتحرر الوطني يمكنها التضحية ولكنها في الأول والآخر تريد المحافظة على الوطن وناسه؛ وهي تعيش حالة «رسالية» لا تكون المفاوضات بالنسبة لها سوى إما وسيلة لالتقاط الأنفاس، أو أنها تتصور ضعفا لدى الطرف الآخر، وهو في هذه الحالة الولايات المتحدة، وآن أوان حصد ثماره بأن تحصل على أفغانستان كلها من دون الحكومة الشرعية الحالية، ومن دون القدر الأعظم من القوات الأميركية، ومن دون كل ما جرى من تطورات للدولة والشعب في أفغانستان. سؤال ترامب ليس في مكانه، ولعل مثل هذا السؤال هو ما أدى إلى استقالة مستشاره للأمن القومي بولتون الذي لم يعد يفهم من سلوكيات الرئيس الأميركي كيف يمكن له أن يقدم التهديد والوعيد والمحو من على وجه الكرة الأرضية، وفي الوقت نفسه، يريد الانسحاب عند أول فرصة تلوح؟!