بقلم - عبد المنعم سعيد
جاء «إيمانويل ماكرون» إلى مصر على متن طائرة، لم يكن شاهرا سيفه، ولا كان معه مدافع بدائية كتلك التى جاءت مع نابليون بونابرت فى نهاية القرن الثامن عشر. لم تعد مصر كما كانت، ولا أصبحت فرنسا كما بدت قبل أكثر من قرنين، ولا كان العالم كما كان؛ تغيرت أمور كثيرة جاء فيها رؤساء فرنسا دوما مع كثير من الضجيج. حتى فاليرى جيسكار ديستان ظهر فجأة زائرا بعد أن طعن به السن، ولا تزال ذكريات ميتران وشيراك فى زياراتهم ليست كبقية زيارات قادة دول أخرى. ما يجمع الجميع أنهم لا يأتون ويذهبون فى صمت، وبشكل ما فإن الفرنسيين دائما ما يشعرون أن لهم نصيبا ما فى مصر، ربما لأنهم عرفوها أحيانا قبل أن يعرفها المصريون عندما عرفوا اللغة المصرية القديمة (شامبليون)، وعندما كانوا أول من نصحوا الوالى محمد على أن يصدر قانونا للآثار، ونصحوا واليا آخر بإنشاء المتحف الشهير فى ميدان التحرير. الأمريكيون على سبيل المثال أخذوا المسلة المصرية كنموذج للوصول إلى السماء، وأقاموا مثلها مقاما لمؤسسهم الأول جورج واشنطن، أما الفرنسيون فأخذوا مسلة مصرية حقيقية أقاموها كما هى فى قلب باريس، الإيطاليون أخذوا ١٨ مسلة إلى روما ووضعوها فى الميادين المختلفة بعدما غيروا دياناتها من «الأوزوريسية» إلى المسيحية. الفرنسيون عرفوا «الإجيبتولوجي» (علم المصريات)، و«الإيجيبتومانيا» (اللوثة بالحضارة المصرية القديمة). المصريون على الجانب الآخر كانوا فى حيرة دائمة فى التعامل مع الدولة الفرنسية المعاصرة، فهى كانت دولة صديقة نكاية فى دولة الإنجليز المستعمرة لمصر، ثم صارت هى الأخرى جزءا من حزمة الدول الاستعمارية بينما القاهرة عاصمة للتحرر العربى والعالمى. وفى عهد الرئيس السادات وبعد انفتاح مصر السياسى جاء ديستان مع من جاءوا من الدول الغربية فاعتبره الشاعر أحمد فؤاد نجم علامة على تدهور الروح الثورية المصرية.
العلاقات المصرية الفرنسية كانت دائما مختلطة، ففرنسا لم تعد دولة عظمى، وبالمعايير الأوروبية فإنها كانت أقل قدرة من بريطانيا التى كانت أكبر من حقيقتها بسبب علاقاتها الأمريكية، أما ألمانيا فقد رفعتها القدرات الاقتصادية إلى ما يجعلها قائدة لأوروبا الموحدة، وبعد «البريكسيت» فإن فرنسا ستكون شريكا أصغر فى معادلات القوى الكبرى. ومع كل ذلك فإن فرنسا تظل رقما بين الدول الصناعية الكبرى، وهى دولة نووية، وبارزة بين دول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، ولها لمسة خاصة فى حضارة العالم تختلف عن الحضارات الأخرى أوروبية كانت أو آسيوية. انتخاب «ماكرون» لكى يقود فرنسا بدلا من المحافظين الفرنسيين أعاد الكثير من الحيوية إلى فرنسا وإلى فكرة الوحدة الأوربية بعد إشهار نية الخروج البريطانى. وزيارته لمصر كانت رحلة بحث عن الذات بدأت كما هى العادة الفرنسية بآثار مصر القديمة فى جنوب مصر حتى جاء إلى الأهرامات وأبو الهول، وكان يعرف جيدا أن أربعين قرنا من الزمان تنظر إليه من قمم ثلاثة. الحال فى أوروبا القلقة والمضطربة بالأزمة السياسية فى لندن، والأخرى الاقتصادية فى روما، والثالثة فى عواصم أوروبية أخرى تأخذ أشكالا متعددة فيها السياسة والاقتصاد والهوية والحيرة بين الديمقراطية والفاشية لأول مرة منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، والرابعة ذات السمات الجنونية التى يثيرها ذلك الرجل فى واشنطن: دونالد ترامب. الشرق الأوسط لم يكن أسعد حالا، ومصر فى قلبه نجت من عواصف وأعاصير ظنها الأوربيون والأمريكيون ربيعا فيه نسيم وعطر؛ وكان عليها أن تصعد هرما من الأزمات والحرائق كبر بعضها عبر التاريخ، وارتدى بعضها حاضنة من دين.
« الزيارة الفرنسية» كان فيها محاولة للالتقاء المصالح التى جعلت من اللقاء حالة تعرفها مصر كما تعرفها فرنسا، وفيها من الأمن والسلاح ومجابهة الإرهاب وبناء الاقتصاد المصرى ما يكفى البلدين وزيادة. الغيوم جاءت مع قضية «حقوق الإنسان» التى باتت سحابة الزيارات الغربية لمصر، ولم يكن لدى مصر «بطحة» وإنما إجابات على أسئلة لم تمض أبدا إلى نهايتها التى تبحث عن محتوى الحرية والتظاهر والفارق ما بين الرأى والتحريض. فى كل الأحوال قال ماكرون كلماته وكأنها موجهة إلى جماعة فى باريس، ورد عليه الرئيس السيسى بكلمات موجهة إلى المصريين بقدر ما هى موجهة إلى العالم. وربما كان على ماكرون أن يفكر فى أن جوهر العلاقات بين الدول سوف يبقى دائما مصالح ينبغى مراعاتها، أما الدروس فهى دائما متبادلة، وعندما عاد الرجل إلى وطنه حمل أفكارا كان بعض منها من الرحلة، وبعضها الآخر ربما أتى على مائدة عشاء لا يوجد فوقها سحب.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع