بقلم : د. عبد المنعم سعيد
فى عام 2002 صدر لى كتاب عن «دار المحروسة» تحت عنوان «السياسة فى غير السياسة» كان جمعا لمقالات كتبتها قبل ذلك اعتبارا من عام 1990. السياسة فى جوهرها هى القدرة على التأثير ودفع الناس بطرق «مشروعة» إلى اتباع طرق لم يكونوا ليتبعوها لولا هذا الفعل؛ وبشكل ما فقد وجدت ذلك موجودا فى الفنون والرياضة والثقافة وكل ما صار فيما بعد معروفا بمفهوم «القوة الناعمة». الآن فإن العنوان ربما يشير إلى مفهوم مماثل، ففى الأول كانت الحرفة، وعندما اكتشف الإنسان أنه يستطيع صناعة آلة من الحجر كان عليه أولا أن يكسر قطعة معقولة منه يستطيع التعامل معها، ثم بعد ذلك يبدأ فى عملية تهذيبها لكى تصير مطرقة أو سكينا بعد «سن» أجزاء حادة. إنتاج الأدوات بعد ذلك من الجلد أو من النحاس أو الحديد احتاج طاقة وأدوات أخري، ولكن الإنسان فى كل مرة ينتج وحدة واحدة. هذه الحرف لا يزال بعضها قائما بيننا حتى الآن، ولن تعدم فى المدن الكبرى أن تجد مثلها لا يزال موجودا. الاتجاه العام فى كل الأحوال هو الانقراض بعد أن حلت «الصناعة» مكان الحرفة، فلم تعد المسألة إنتاجا لحذاء واحد فى كل مرة، وإنما آلاف وربما ملايين الوحدات كل دقيقة لكى تنتقل من خلال شبكات المواصلات الكبيرة لكى تصل إلى المحال والأسواق الكبرى داخل صندوق شحن.
فما هى الصناعة التى تحدث فى غير الصناعة يا ترى، وهل هى فى النهاية نوع من «الصناعة الناعمة»؟ ربما يكون الحال كذلك، ولكن الفكرة أتت من اللاعب محمد صلاح. فهو فى الأول والآخر «محترف» هو منتج فردى له حرفة لعب الكرة بمهارة جعلته يحصل على جوائز كثيرة. ولكن لاعبنا العظيم له رفيق دائم هو «الوكيل» الذى هو ليس فردا وإنما مكتب يضم خبراء لديهم القدرة على حساب قيمة لاعبهم مقارنة بآخرين وعملهم يصب فى الكيفية التى يتم بها نقل اللاعب من ناد إلى آخر، وكذلك كيف يكون الاستثمار فيه من أول «التى شيرت» الذى يرتديه وحتى «البراند» الذى يمثله. هو فى نهاية الأمر «صناعة» متكاملة تدخلها مدخلات من أول تعلم اللغة الإنجليزية، وحتى تقرير دور «مكة» ـ الطفلة الجميلة ـ فى حفل يحصل فيه صلاح على الحذاء الذهبى. بالطبع فإن لاعبنا الحريف ليس هو اللاعب الوحيد فى الكون، فقد سبقه على الطريق صناعات أخرى حصل فيها ميسى وكريستيانو ورونالدو على خمس كرات ذهبية. وإذا كان لاعب كرة القدم قد صار صناعة، فإن كرة القدم، وبالطبع غيرها من الألعاب، صارت هى الأخرى صناعة، اللاعبون والفرق مجرد فروع فى هذه الصناعة، والآن أصبح «الاستاد» هو المصنع الكبير الذى لا يلعب فيه اللاعبون، وتتنافس فيه «براندات» الأندية، وإنما هو سوق كبيرة مرعبة للمواهب والملابس والمنتجات.
هل يمكن تصور أن الجامعات هى الأخرى مصانع؟ كان ذلك ما حدث لى عندما قضيت صيف عام 2003 فى جامعة هارفارد لكتابة بحث عن «المبادرة العربية للسلام». كل ما سمعت به عن الجامعة من قبل كان صحيحا من النواحى الأكاديمية والعلمية، الحوارات والنقاشات، وحتى المطاعم التى يأكل فيها الحائزون على جائزة نوبل. ولكن الجامعة أكثر من ذلك، هى صناعة كاملة للعلم، بل وحتى المنتجات الخاصة جدا بالجامعة الأولى على العالم من أول الملابس والحقائب وحتى سلاسل مفاتيح السيارات. مبانى الجامعة كلها تقع حول ميدان هارفارد، والشوارع المتفرعة عنه، وكلها تشكل «مولا» كبيرا، تتحرك فيه الأموال بقدر ما تأتى به الأفكار، وتجرى فيه عمليات للصقل والإنتاج لأفراد خارقى الذكاء ينتج عنهم عشرات من المنتجات الفكرية والعلمية، ومن أول شبكات التواصل الاجتماعى وحتى حل الصراعات الدولية.
الجامعات تقودنا إلى المطارات والمستشفيات الكبري. على سبيل المثال فإن مطار القاهرة الدولى مهمته تسفير المسافرين واستقبال العائدين، هو نوع من الحرفة التى تهتم بفرد أوجماعة، ولكن مطار شيكاغو أو جون كيندى أو فرانكفورت أو حتى اسطنبول فهى مصانع متكاملة. أنت لا تدخل فيها للسفر وإنما للتسوق والاطلاع على العولمة والاحتكاك بثقافات متعددة، وفى كل هذا شبكات متعددة من الطاقة والإنتاج والاستهلاك وبعد ذلك يذهب كل إنسان إلى حال سبيله. هى صناعة التجميع والتفريق كما يحدث فى كل أنواع المواد الأولية التى يجرى تجهيزها ثم استخراج منتجات جديدة. وعندما ذهبت إلى مستشفى «إم. دى. أندرسون» فى مدينة هيوستون الأمريكية لم يكن ما ذهبت إليه أطباء ومعالجين وباحثين، وإنما كان حول كل ذلك وبجواره مدينة كبيرة تعزف فيه الموسيقي، وبها من المطاعم ما يسر المرافقين. بالطبع فإن البحوث الكثيرة تنتج الأدوية التى تبدأ تجريبية ثم تنتهى إلى طرحها التجارى فى أسواق العالم؛ ولكن ذلك ليس كل الموضوع.
لماذا كل هذه الأمثلة؟ الإجابة لأننا بصدد تحقيق انطلاقة كبرى فى مصر، وهذه لا تكون الآن فى الدنيا إلا إذا علمنا أن صناعة البشر لا تختلف كثيرا عن صناعة الحديد والصلب، بل لعل هذه باتت رمزا للثورات الصناعية الأولي. أما الثورات الثالثة والرابعة الآن ففيها أشكال جديدة تنتج للكون بأكثر مما تنتج لفرد أو لجماعة أو حتى دولة وأمة بكاملها، وفى هذه فإن فردا واحدا، أو مطارا، أو جامعة، أو مستشفى، أو ناديا رياضيا، كلها باتت مصانع ومصانع كبرى أيضا. وفى دول مثل مصر فإن التراث يصير هو الآخر صناعة، ليس فقط لأن الحرف تستخرج منه عقدا أو سوارا، أو فنونا وأدبا وموسيقي، وإنما لأنه منه تأتى تصميمات العمارة، ونماذج التطور البشري، وأنسجة وصناعات للهوية التى تربط شبكات واسعة من البشر. مصر كلها بعبقرية المكان وجهد البشر يمكنها أن تكون ليس فقط أقدم دولة فى التاريخ، وإنما هى أعظم دولة فى المستقبل إذا ما باتت مصنعا هائلا ممتدا بين نهر وبحرين.
نقلًا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع