بقلم : د. عبد المنعم سعيد
هل تذكرون ذلك السؤال اللحوح «هى مصر راحة على فين» أو باللغة العربية الفصيحة «إلى أين تذهب مصر؟. الآن نعرف بقوة ووضوح إلى أين سوف تكون المسيرة من الآن ولسنوات أربع قادمة، وما بعدها أيضا. لدينا مهمتان: الانتهاء مما نحن فيه بالفعل، سواء كنا وضعنا حجر الأساس لمشروع أو مضينا فيه كله أو بعض منه، والأخرى تناول أربعة ملفات إضافية مهمة: التعليم، والصحة، والجهاز الإدارى للدولة، وبناء حراك سياسى يدعم الاستقرار ويدفع التنمية. فى كل ذلك لا يوجد طريق آخر سوى اتخاذ قرارات صعبة، فالحقيقة هى أن الذين طرحوا بإلحاح ذلك السؤال المحير كانوا يتجنبون ما يعرفون أنه فى كل أرجاء الكوكب لم يكن هناك بد من اتخاذ قرارات صعبة، هم فى الواقع كانوا يريدون بقاء كل الأمور على ما هى عليه، لأن ذلك من ناحية يسمح بقدر كبير من الشكوى والأنين، ومن ناحية أخرى كان يعطى مساحات واسعة للكسل والفشل واختراع المؤامرات الكثيرة التى ينسب إليها تأخرنا وتراجعنا وهزائمنا أيضا. الآن لا يوجد إلا الألم والعرق والدموع، وحينما كان الأمر مطروحا على أمم أخرى فلم تكن هناك مبالغة حين قيل إن الإصلاح ما هو إلا عملية جراحية كبيرة يتم إجراؤها بدون مخدر!.
ولمن لا يعرف، وأظن أن كثيرين لا يعرفون، أنه رغم كل أشكال المعاناة والألم، فإن مصر بلد محظوظ، فرغم كل الحروب التى خاضتها فإنها لم تنته إلى ما انتهت إليه دول مثل ألمانيا واليابان وفيتنام وكمبوديا حينما سويت المزارع والمصانع والبشر والحجر بالأرض. بالتأكيد كان هناك لدينا شهداء كثّر، كما جرى تدمير مصانع ومدارس وحتى أجبرنا على نقل سكان مدن القناة إلى الوادى، ولكن أيا من ذلك لا يقارن بما كان على دول أخرى أن تعيشه، وكانت له نتائج اقتصادية واجتماعية مروعة. بالصدفة البحتة كنت فى موسكو قبل انهيار الاتحاد السوفيتى بخمسة أسابيع، ولم يذهب من الذاكرة ما شهدناه من أمة جائعة وممزقة تقف حول أبواب الفندق فى مشهد يثير الشفقة. وقبلها كان سور برلين قد انهار ومعه دول حلف وارسو، وشاءت الظروف الذهاب هناك بعد سنوات قليلة إلى دول أوروبا الشرقية، ولم يحدث أن شاهدت فى حياتى حزنا مثل ذلك الذى وجدته فى رومانيا، ولا ما كان معروضا للبيع مثل الذى كان فى جمهورية التشيك التى انقسمت دولتين، وقس على ذلك فى يوغسلافيا التى انقسمت خمس دول، وفى عام ١٩٩٨ كانت الصين لا تزال مقارنة بمصر فى عام ١٩٧٤. سنوات قليلة بعد ذلك مرت وإذا بكل هذه الدول تدخل فى عالم آخر من التنمية والتقدم والعلوم والتكنولوجيا. كانت الثمرة بقدر الثمن الفادح والألم الكبير والعمل الذى لا يتوقف.
كل ذلك أعطانى حصانة من الدهشة عندما طُرحت وعود الألم على المؤتمر الوطنى للشباب من قبل الرئيس عبدالفتاح السيسى، ومن قبل شباب جديد راح يطرح الأسئلة حول ما تحقق، وإلى أين سوف نمضى فيما حققنا، وما هو الجديد الذى سوف يأتى بعده. لم يكن هناك لا أمر غائب، ولا آخر غامض، فما جاء لمن كان مثلى يطلبه عبر عقود أتى كما لو كانت البلاد قد وصلت أخيرا إلى المرفأ الذى وصل إليه كل من أراد العلا والمجد. خائب الكلام لم يُقل حول التدرج وكأنه من الممكن أن تجرى العمليات الجراحية عبر مراحل، أو يحصل المريض على حصة الدواء بالتقسيط. ما كان، وما سوف يكون، لابد منه فهو السبيل ولا شىء غيره، ولم يسبق لأمة أن عبرت الجسور نحو التقدم المستدام دونما جسارة وشجاعة ومعرفة قيمة الزمن. ومفاتيح ذلك لدينا الآن هى التعليم والصحة والجهاز الإدارى للدولة والحراك السياسى. بشكل أو بآخر، فإننا نعرف ما سوف نذهب إليه فى الأول والثانى، حيث التعليم يسير كما سارت فيه أمم من قبلنا مدعاة للعقلانية التى تسبب الأسباب، والمعرفة التى توسع المدارك وتشجع على الابتكار والإبداع، وببساطة نصل إلى نهاية مجتمع التلقين والتقليد والغيبية. أما الصحة فربما كان المبتغى تأمين الإنسان المصرى من غول المرض فى مراحل حياته المختلفة من خلال وسائل التأمين المختلفة والتى بدأت بوادرها حاليا وما علينا إلا استكمال الطريق. وإذا كان التعليم والصحة يقودان إلى مهام صعبة، فإن إصلاح النظام الإدارى للدولة سوف يأخذنا إلى المستحيل. ففى مصر فإن البيروقراطية ليست قواعد ولوائح معقدة يمكن تبسيطها، ولكنها ثقافة، وربما كانت هوية. وبقدر ما كان «الكاتب المصرى» دلالة على حضارة تسجل كل شىء، فإنها كانت فى نفس الوقت العقبة التى وقفت فى وجه التقدم المصرى خلال العقود الستة الماضية. ولمن لا يعرف فإن النظام الإدارى فى الدولة هو أكبر حزب سياسى فى البلاد يريد الناس مصفوفة، كما هو الحال فى جداول المحاسبات، وأساس الترقى هو الأقدمية ولا شىء غيرها، وما يأتى من الخارج لابد أن فيه مؤامرة من نوع أو آخر، والأرجح أنه لا يقدم أى جديد لمصر المحروسة التى بها عقول لا يباريها أحد فى الكون. حجم الجهاز الإدارى للدولة جعل منه قوة سياسية لا يستهان بها حتى وهى تسير وفق قاعدة السمع والطاعة، فإن لها سبلا ووسائل لكى تبقى كل الأمور دوما على حالها.
المهمة فى إصلاح الجهاز الإدارى للدولة صعبة كما هو حال كل المهام الأخرى، ولا يمكن إنجازها إلا بالسياسة التى تكشف وتوضح للمجتمع مواقع القصور ومكامن الخطر. وللحق فإن مصر الحديثة من محمد على إلى السيسى عرفت خلال العصور المختلفة الكثير من الإنجازات وملامح للتقدم؛ ولكن إخفاقها الأكبر كان فى السياسة، سواء كان ذلك فى العهود الملكية أو العصور الجمهورية، وسواء كان نظام الانتخاب فرديا أم كان بالقائمة، وإذا كان انتخاب الرئيس بالاستفتاء أو بالمنافسة. كانت لدينا دوما كافة المؤسسات السياسية فى الدولة الحديثة من برلمان إلى الأحزاب إلى الحزب الواحد إلى الإعلام إلى الجمعيات الأهلية والنقابات والقوى الوسيطة الأخرى، ولكن أيا منها لم يعمل كما تعمل هذه المؤسسات فى البلدان المتقدمة. كان هناك دوما قصور فى اللوائح، ولكن كان الأكثر منه فى القيم، وفى أوقات ذابت المسافة بين الديمقراطية والفوضى، وفى أوقات أخرى انحسرت الديمقراطية إلى الاستبداد. نشر القيم وبناء المؤسسات وحفظ التوازن الديمقراطى بعيدا عن الفوضى والاستبداد هو المهمة الصعبة الأخرى للسنوات الأربع المقبلة.. هل عرفنا إلى أين ستذهب مصر؟
نقلًا عن المصري اليوم القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع