لم يكن قد مضى على وجودى ستة أشهر فى جامعة شمال إلينوى بالولايات المتحدة 1977/1978 حتى قال لى أستاذى والمشرف على رحلتى إلى الدكتوراه البروفيسور مارتن دافيد ديوبن إننى أكثر تقدما على زملائى فى البحث العلمى بنحو عشر سنوات.
كان فى ذلك ما يجلب السرور الشخصى لأى طالب، وسوف يأخذه على أنه نوع من التشجيع لطالب مجتهد، ولكن الحقيقة أن الموقف أصبح مناسبة للحديث عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية.
فعندما ذهبت للدراسة كنت قد حصلت بالطبع على التعليم المتقدم فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وبفضل ما درسته على يد أساتذة عظام مثل زكى شافعى وبطرس بطرس غالى وسمعان بطرس فرج الله وعز الدين فودة وعمرو محيى الدين ومصطفى السعيد وفتح الله الخطيب وحامد ربيع وغيرهم ممن يحفرون على عقول تلاميذهم أمرين: العلم والشخصية. ولكن التأثير الأكبر كان فى تجربة عامين من العمل فى مركز الأهرام (1975ـ 1977) تحت القيادة الرشيدة لأستاذنا السيد يسين فقد كانت الحصاد كتابا عن العلاقات المصرية الأمريكية (بالاشتراك مع الدكتور مصطفى علوي)، وكتابا آخر عن الحوار العربى الأوروبي، وثالثا عن وثيقة كوينج وعرب الأرض المحتلة عن الفلسطينيين فى إسرائيل الذى كتبته بتكليف من الدكتور على الدين هلال، وفصلا كبيرا عن السياسة الخارجية لمنظمة التحرير الفلسطينية فى كتاب صدر عن الجامعة العربية فى ذلك الوقت على ما أذكر وشارك فى تحريره أيضا الدكتور على الدين هلال وآخرون، ومع ذلك رحلة إلى هولندا لدراسة تجربة التكامل الأوروبى كانت الأولى بالنسبة لى لكى أركب الطائرة وأزور بلدا أجنبيا. لم يكن ذلك كل ما حصلت عليه من المركز، فقد كان هناك بحوث ومقالات أخرى فى دوريات مختلفة، ولكن ربما كان الأكثر أهمية هو خلق الشخصية مرة أخرى التى تستطيع أن تحاور وتناقش وتتعامل بعقل ثابت مع الحجج المختلفة، ولا تصاب بالخضة إذا ما كانت لامعة، ولا ترهب إذا ما كانت منذرة، ولا تتعامل معها بمنطق المبارزة، ولا بالاستسلام المأخوذ أو المنبهر. المسألة فى الأول والآخر كما تعلمنا ومارسنا كان الاستناد القوى إلى العلم، وأساليب التحليل المتقدمة، والقدرة على صياغة ما نود التعبير عنه بدقة الألفاظ وسلامة التعبير مع نفحة معتدلة، ولكنها مؤثرة من الإيمان فيما تقول.
هذا الدين فى عنقى الذى جعلنى متقدما على زملائى من الأمريكيين وغيرهم فى الدراسة كان لابد من روايته مع حلول مناسبة مرور خمسين عاما على إنشاء مركز الأهرام.
ورغم أن الشائع هو أن الأستاذ محمد حسنين هيكل هو الذى أنشأ المركز، وذلك صحيح إلى حد كبير فقد كان هو الذى أصدر القرار ووفر الموارد، إلا أن بعضا من الفضل لابد وأن يعود إلى الدكتور بطرس بطرس غالى الذى كان له فضل إدخال مناهج التفكير العلمى فى السياسة عندما أنشأ مجلة الأهرام الاقتصادي، ومن بعدها مجلة السياسة الدولية، فكانا معا سببا فى إدخال المذاق البحثى إلى مؤسسة صحفية عريقة.
ويبدو أن الأستاذ هيكل وجد أن التجربة تستحق، وكانت هناك أسباب أخرى، فقام بإنشاء مركز الأهرام للدراسات السياسية والاقتصادية فى عام 1966 وأداره الدكتور اسماعيل صبرى عبد الله، وفيما أذكر مركزا آخر للدراسات التاريخية. بعدها، وكانت النكسة فى يونيو 1967 قد حلت بثقلها التاريخى المفزع، فإن واحدا من النتائج المذهلة كانت أننا فى مصر والدول العربية لا نعرف شيئا عن إسرائيل العدو الذى هزمنا توا فى هزيمة منكرة.
كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد بدأت فى هذا التنبيه بإنشاء مركز الدراسات الفلسطينية فى بيروت عام 1968؛ فجاء قرار الأستاذ هيكل بإنشاء مركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية ضمن إطار مؤسسة الأهرام لكى نتعرف على إسرائيل التى لم يكن يعرفها أحد على الأقل خارج المؤسسات الأمنية المختلفة التى كان عليها القيام بهذه المهمة.
فحتى عام 1970 لم تكن هناك مادة دراسية واحدة فى كلية الاقتصاد العلوم السياسية تتعرض لإسرائيل أو لنظامها السياسى أو أحوالها الاقتصادية وغيره من المعرفة الضرورية، كانت إسرائيل مزعومة، وما هو مزعوم لا يمكن دراسته بالضرورة!.
كانت الأحوال قد تغيرت بعد أن خرج الطلبة إلى الشوارع فى مظاهرات عام 1968، فجرت مسيرة صغيرة من طلبة العلوم السياسية شاركت فيها إلى مكتب العميد الدكتور فتح الله الخطيب تطالب بإدخال مادة جديدة عن إسرائيل، فما كان من عميدنا إلا إضافة دراسة نظام الحكم فى إسرائيل إلى مادة نظم الحكومات التى كان يدرسها.
كان ذلك هو الانفتاحة الثانية على دراسة إسرائيل داخل مصر بعد مركز الأهرام الذى بدأ فى دراسة الاقتصاد الإسرائيلى (د.عثمان محمد عثمان وزير التنمية الاقتصادية فيما بعد)، والأحزاب الإسرائيلية، وقام الدكتور عبد الوهاب المسيرى بإنتاج الموسوعة الصهيونية وتوالت الدراسات بعد ذلك عن الكنيست الإسرائيلى وبقيادة اللواء حسن البدرى واللواء ضياء الدين زهدى فيما أذكر وضعت العسكرية الإسرائيلية تحت المجهر.
كان النشاط والإنتاج البحثى كثيفا إلى الدرجة التى وجد فيها الأستاذ هيكل ضرورة تجميع كل المراكز البحثية فى مركز واحد هو مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية الذى جرى إشهاره فى صيف عام 1972.
كانت حرب الاستنزاف قد توقفت منذ قرابة عامين، وكانت حرب أكتوبر على بعد عام، كانت مصر فى لحظات مصيرية وكان على المركز بقيادة الأستاذ حاتم صادق فى ذلك الوقت أن يتأهب للقيام بدوره الوطنى مستعينا بأسماء عظيمة مثل الدكتور عبد الملك عودة، والدكتور بطرس غالي، والأستاذ السيد يسين، والدكتور على الدين هلال، والأستاذ جميل مطر، والأستاذ سميح صادق، والدكتور سامى منصور، وكتيبة عظيمة من أنبل العقول التى جاءت من مجالات عسكرية ودبلوماسية وتاريخية واجتماعية.
باختصار كانت مدرسة كبرى للبحوث السياسية تولد فى مصر، كان على الخريجين من أمثالنا الذين كانوا مجندين فى القوات المسلحة فى ذلك الوقت ينتظرون يوما مشهودا للعبور الكبير، والعودة من بعده للعمل فى هذا المركز العظيم.
والحديث متصل.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع