الأحداث تمضى فى مصر، ومنطقتنا، والعالم، تتراكم فوق بعضها البعض، والمؤرخون يؤرخون ويعدون ويحصون؛ ولكن الأدب وحده هو الذى ينقل انعكاسات ما يجرى على البشر، الشعوب، والأفراد، وبدون ذلك فإن القصة لا تكتمل أبدا، وتظل دوما ناقصة. المنشغلون منا بما يجرى تحليلا وشرحا لا تكتمل لهم «الرؤية» ما لم يكن فيها تلك الحزم من التفاصيل الإنسانية التى تنتجها الروايات مثل تلك التى قرأتها مؤخرا.
الأحداث كلها أعرفها، وكثير منها عشته رصدا وقراءة وتحليلا، ولكن الرواية مثل «النبيذة» لإنعام كججى (دار الجديد، لبنان، خريف ٢٠١٧) تعطى كل ما سبق منذ الأربعينيات حتى الآن أبعادا لم تكن لتذكرها، لا أرقام القتلى أو الجرحى، أو الخرائط المرسومة، أو معدلات النمو وإلى أين صار الناتج المحلى الإجمالى. أياً من ذلك لا يقول لنا الكثير عما كان يعنيه لبشر من ألم أو سعادة أو رضا أو اكتئاب أو خسارة أو مكسب أو استسلام أو مقاومة. جغرافيا القصة تدور حول الحركة فى إطار ممتد من كراتشى فى باكستان، وحتى كراكاس فى فنزويلا، وبينهما توجد فى المنتصف تماما باريس، ومن تحتها تمتد مساحة كبيرة من الزمان والمكان والبشر والحب والكراهية، والسلام والعنف، والرضا والقبول من ناحية والرفض والعزوف من ناحية أخرى.
القصة رواية ثلاثة: امرأتان ورجل، تاج الملوك، ووديان الملاح، ومنصور البادى. النساء عراقيتان، الأولى وهى ذات الأصول الإيرانية بدأت تجربتها العراقية من الأربعينيات فبدأت مع الملكية وانتهت مع الجمهورية، والثانية فى الستينيات ومنها كانت الديكتاتورية إلى الهزيمة؛ أما الرجل ففلسطينى عاش النكبة فغادر إلى بغداد ومنها إلى كراتشى والقاهرة حتى وصل إلى فنزويلا، وأصبح مستشارا لهوجو شافيز وتجربته التى انتهت إلى ما انتهت إليه الآن.
رواية الرواية تنتقل بين الألسن، أو الشخصيات، الثلاث، ولا تعرف أبدا متى ينتهى الخيال وتبدأ الحقيقة، فهناك دوما عالم وهمى خاص لا يمكن لمؤرخ رصده، ولكنه فى كل الأحوال موجود ومؤثر وعلى أساسه تبنى القرارات بالبقاء أو بالرحيل، أو باستمرار كل شىء على ما هو عليه، أو انقلابه رأسا على عقب. العقود السبعة الأخيرة من عمر منطقتنا التى تقلبت فيها المنطقة من الملكية إلى الجمهورية، ومن الثورة إلى الدولة، ومن معاناة البحث عن الاستقلال، وألم الإجابة عن السؤال: ماذا نفعل بذلك الاستقلال الذى حصلنا عليه؟ الفشل فى الإجابة عن هذا السؤال جعل الألم مروعاً، ولم تعرف تاج الملوك كيف تتغلب عليه إلا بالانتقال من مكان لآخر، والبحث عن الطمأنينة فى كنف ضابط مخابرات فرنسى، أما وديان التى فقدت سمعها فقد وجدت مكانها عازفة للموسيقى فى باريس. منصور فقد بلده كلها فتنقل بين البل��ان حتى وصل إلى كراكاس حالماً بلقاء المحبوبة تاج الملوك فى باريس وعندما وصل إليها كانت قد بلغت الكبر عتياً فلم تكن تلك المرأة التى أحبها ورغب فيها.
فى الرواية العربية هناك دائما مبحث خاص باللقاء مع الغرب أو الصدمة مع الحضارة الأوربية، فى موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، أو عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، أو قنديل ام هاشم ليحيى حقى، وأمثالهم قصص، فإن المواجهة بين الشرق والغرب تأخذ أبعاداً كلية مثل العلم والحضارة، ومدى الاختلاف والتمييز بين العقل والعاطفة. «النبيذة» من تأنيث النبيذ أو تصغيره، تعكس الحالة المعتقة لتاج الملوك؛ ولكن عملية التعتيق هذه لا تكتمل فى جمالها وجلالها ما لم تقابلها ما ترويه «وديان» التى تبدو أنها هى التى أمسكت بعصرنا بما عصره من روحها وروحنا معاً. هى صلة الوصل بين منصور فى فنزويلا، وتاج الملوك فى باريس، وهى التى تنقل عنهما ما كان تصوراً لحقيقة اللقاء الذى تم، أو لم يتم، الحقيقة هنا لا تهم كثيراً وإنما تلك الحالة من الحيرة، والعجز عن الإمساك باللحظة التى عندما تحدث لا تصير إلا وهما. وفى كل الأحوال فإن المكان الذى يبدو فيه الأمان والدعة، فإنه لا يجعل ما جرى فى بغداد من أمل أو ألم بعيداً. الحياة فى الغرب لا تعبر عن صدام روحى أو عقلى، هى حالة لجوء لا تزيد ولا تنقص، وفى الملجأ فإن الأصول حاكمة وتدور دوراناً لا يتوقف يقرب من المناضل الجزائرى بن بلة فى المستشفى الفرنسية تارة، ويبعد به إلى حيث كان تدبير محاولة اغتياله الفاشلة فى شرفة فندق سميراميس فى القاهرة.
ليس مهماً عما إذا كانت الحادثة قد وقعت أم لا، ولكن الخيال الروائى يحتم ما كان متصوراً أن يحدث فى زمن الرواية، وتاج الملوك التى تبدو بين الثلاثة الأكثر تكاملاً وامتناناً بالحياة، هى التى تتقلب بين صفحات التاريخ منذ صحبة نورى السعيد ومشاركته فى الثورة العربية وحتى الربيع العربى المغدور. هى التى تبدو الأكثر سعادة، والأقل اغتراباً، على عكس حالة وديان التى كسرت حياتها بفقدان السمع نتيجة طغيان الزمن الصدامى حيث لا قيمة لإنسان ولو حتى كان عازفاً فى الكونسرفتوار. غرض الإهانة والإذلال حتى الهرب إلى الخارج يبدو غرضا للحكم وله فى حد ذاته لذة مغموسة فى حالات نضالية. التجربة هنا تقترب من المركز فى الرواية أو فى الواقع لا فرق، أو حالة الانكشاف العظمى لكل الشخصيات، فالحياة دارت لأكثر من ثلاثة أرباع قرن، من أول الأربعينيات من القرن العشرين، حتى العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين حيث يكون الألم وطنا، والحب مذبحة.
اللحظة الدرامية العظمى فى الرواية بدت فى فقدان وديان لسمعها وهى العازفة الموسيقية الماهرة على الكمان؛ ولكن اللحظة الأخرى التى لا تقل درامية وتراجيدية معا فهى تلك اللحظة التى كان عليها أن تعزف منفردة فى حفل عام والتى عندما وصلت إليها بعد كفاح سنين كان كمانها معطوباً، وعندما عزفت على كما�� مستعار لم تخرج منه النغمات التى أرادتها. منصور الحائر الذى فقد وطنه حاول التكيف دائما، عرف حياة الرحيل والانتقال، وخلق عالمه الخاص مع تاج الملوك، بينما فى الواقع تزوج وطلق، وأصبح المستشار والسفير فى دولة أخرى بينما يتابع بدقة حبه الأثير، وأحوال وطنه المفقود.
الثلاثة لا ينسون شيئا حتى ولو كانت تاج الملوك تحكى وتوثق وتملأ الثغرات من خيالها حول لقاء مزعوم فى زمن الشيب؛ وكانت وديان تغترف مما تسمع وتتلقى من رسائل، ولكنها لا تقول شيئا إلا للقارئ التى أسرته بقصة مؤلمة ربما تكون قصته الخاصة.
أما صاحبنا فإنه خلق فى الحياة لكى يتفرج، على المحبوبة وهى تذهب على سفينة من كراتشى بينما يلتقط لها الصور، وعند اللقاء لا يجد معنى لآخرين، وعند شافيز نال الحظوة لأنه كان يعرف الكثير عن نضال سيمون بوليفار وهوجو شافيز. ظلت فلسطين فى الخيال طوال الوقت، ولكن بعدها عن الحقيقة كان بعد السماء السابعة.
بقى أن الأمر فى الأول والآخر كان محض رواية وقصة كنا نعرف أحداثها الكبرى، ولكننا الآن نعرف بعضاً مما تحتويه هذه الأحداث ولم يكن معروفا من قبل من الوثائق ولا من المخطوطات. المخطوطة فى هذه المرة جاءت فى رواية.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع