بقلم : عبد المنعم سعيد
العلاقات الأمريكية الإيرانية محملة دائما بأعباء كثيرة، ومصبوغة دائما بقدر هائل من التوتر، وبقدر ما كانت الصداقة والتحالف تاريخية خلال فترة طويلة من حكم الشاه فى طهران، فإن العداء بات مستحكما لفترة لا تقل طولا فى عهد آيات الله فى إيران. ولكن التاريخ ليس وحده الحكم فى الموضوع، وإنما التباعد الكبير بين نظم الحكم، والمناخ العام للعمل السياسى بين دولة مستقرة، ودولة لا تزال تمارس شعائر الثورة وهتافاتها وأهازيجها بشكل أسبوعى يدعو بالموت لأمريكا ومعها من باب تخليص الذمة إسرائيل أيضا. وعندما تداعت مجموعة ٥+١ من الدول الكبرى لكى توقف التطور النووى الإيرانى من خلال «الاتفاق النووى» الذى وضع حدودا لتطور التكنولوجيا النووية الإيرانية قبل إنتاج السلاح النووى، مقابل رفع العقوبات التى كانت مفروضة من قبل الدول الغربية على إيران، وبعضها كان قديما قدم الثورة الإيرانية على الشاه. وقتها كان اللوم والخطأ واقعا على إدارة الرئيس أوباما فى الولايات المتحدة والتى اقتصرت صفقتها على منع «انتشار» السلاح النووى، وتركت بعيدا عن الموضوع التطور الجارى فى الأسلحة التقليدية الإيرانية وخاصة الصواريخ ومداها، والأهم استخدام أذرعتها السياسية الثورية فى العراق وسوريا ولبنان واليمن لنشر النفوذ وتهديد الدول الإقليمية الأخرى. وعندما قامت إدارة الرئيس ترامب بالانسحاب من الاتفاق فإن حلفاءه اعتبروه مخطئا ليس فقط لأنه خرج على اتفاق تعاقدى بين أطراف دولية، وإنما لأنه لم يكن لديه حل آخر للتعامل مع استئناف إيران لخطواتها نحو السلاح النووى، بل وأكثر من ذلك أنه كان ساكنا وساكتا ساعة أن بدأت إيران فى الاعتداء على دول الجوار الواحد وراء الآخر فى الإمارات والسعودية واليمن بالإضافة إلى التواجد العسكرى «الثورى» فى العراق وسوريا ولبنان باستخدام الصواريخ وأشكال متنوعة من الطائرات المسيرة.
.. الآن فإن الولايات المتحدة ممثلة فى إدارة الرئيس بايدن تتقدم مرة أخرى بالخطأ الثالث وهو العودة إلى الاتفاق النووى مرة أخرى بصيغة تقوم أولا على عودة الطرفين إلى الاتفاق بالأوضاع التى كانت سائدة وقتها، أى عند التطبيق الأول للاتفاق النووى نووية إيرانية مع رفع العقوبات؛ وثانيا أن تتراجع إيران عن سياساتها العدوانية تجاه جيرانها، وثالثا أن تضع إيران حدا لتجاربها الصاروخية التى تهدد أمن جيرانها خاصة إسرائيل. فى المقابل فإن الإدارة الأمريكية جاهزة لخطب ود إيران بالعديد من الإغراءات كان أولها وقف المزيد من العقوبات التى كانت فى طريق الأمم المتحدة من إدارة ترامب فى إطار استراتيجيتها لفرض الحدود القصوى للعقوبات على إيران، وثانيها السعى لإنهاء الحرب فى اليمن بعد أن أصبح تعريف الحرب بأنها أسوأ كارثة إنسانية لا يبدو لها صاحب بعد أن تم رفع صفة «الإرهاب» عن الجماعة الحوثية، ومعها الإعلان عن انسحاب الولايات المتحدة من المساهمة فى حرب التحالف العربى فى اليمن. ضمنيا فإن الحرب فى اليمن لم تعد تلك الحرب التى شنتها الجماعة الحوثية على الحكومة الشرعية اليمنية المنتخبة، وقيامها بالاستيلاء على صنعاء وسجن الرئيس اليمنى. ولم تعد الحرب كذلك وسيلة إيرانية أخرى للتمدد فى المنطقة، والضغط على دول الخليج العربية بدولة فى الجنوب الغربى لشبه الجزيرة العربية، وإنما صارت بشكل ما نوعا من الصراع الشيعى السنى أو باختصار حربا بالوكالة بين المملكة العربية السعودية وإيران بلا أصول ولا جذور ولا تاريخ.
وعلى أى الأحوال فإن الرد الحوثى (الإيرانى) على المبادرة الأمريكية كان أولا توسيع نطاق الحرب بالهجوم على مأرب، وبدأت القذائف فى الهبوط داخل مخيمات اللاجئين بعد أيام من إنهاء إدارة بايدن دعم الولايات المتحدة للتحالف الذى تقوده السعودية واتخاذ خطوات لرفع العقوبات عن المتمردين الشماليين.
هدد التصعيد العسكرى فى مأرب، آخر معقل شمالى للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، بتشريد مئات الآلاف من اليمنيين، الذين فر العديد منهم بالفعل من العنف عدة مرات. أدى ذلك إلى تفاقم الأزمة الإنسانية بشكل كبير وصفتها الأمم المتحدة بالفعل بأنها الأشد خطورة فى العالم. ولم يكتف الحوثيون بذلك، وإنما ثانيا بدأت عمليات قصف صاروخى لمطار «أبها» المدنى ومواقع أخرى داخل المملكة، ورغم أنه فى الحالتين نجح الدفاع الجوى السعودى فى التصدى للهجمات، فإن الرسالة الحوثية الإيرانية كانت أنه على الولايات المتحدة أن تأتى إلى مائدة المفاوضات دون شروط، ودون عودة إلى الحالة النووية التى كانت عليها إيران فى أعقاب الاتفاق، وأن تقوم فورا برفع العقوبات كاملة غير منقوصة على طهران. ثالثا بات فى الأمر تهديد إيرانى مباشر للولايات المتحدة عندما أطلقت أربعة صواريخ على قاعدة جوية عراقية فى ٢٠ فبراير المنصرم ويوجد بها عناصر أمريكية توفى منهم فرد. وأعلنت جماعة مسلحة شيعية، «سرايا أولياء الدم»، مسؤوليتها عن الهجوم. وطالبت جماعات مسلحة مدعومة من إيران جميع القوات الأجنبية، بما فى ذلك القوات الأمريكية، التى يبلغ عددها نحو 2500 فى العراق، بمغادرة البلاد، واصفة وجودها بأنه احتلال.
قبل أقل من شهر من توليها الإدارة الأمريكية فإن مجمع الإشارات والرسائل التى أرسلتها الولايات المتحدة إلى منطقة الشرق الأوسط دفع لدى طهران الانطباع أن الديمقراطيين يأتون راكعين، ومن ثم بات عليهم التسليم بالعودة إلى الاتفاق من حيث هو الآن من الناحية النووية، وبقاء باقى القضايا الخاصة بالمنطقة والأسلحة التقليدية خارج النقاش لأنها يمكن فقط أن تناقش فى إطارات إقليمية مباشرة. ترجمة ذلك أنه من الناحية العملية فإن طهران تريد أن تترجم ما تتصوره اختلالا لصالحها فى توازن القوى فى المنطقة فى شكل نتائج مربحة اقتصاديا لرفع العقوبات، واستراتيجيا بإبقاء نفوذها فى المنطقة تحت راية الثورة والإسلام والعداء لإسرائيل. المبادرات الأمريكية هكذا لم تؤد فى تعجلها إلى السلام أو تأييد عمليات التفاوض، وإنما شجعت الحوثيين على التوغل، وشن العمليات العسكرية على المدنيين، وأكثر من ذلك أنها وضعت الأساس لنشوب حرب فى المنطقة حيث زادت إسرائيل من ضرباتها تجاه إيران فى سوريا، والتحرش بحزب الله فى لبنان، والعودة مرة أخرى للحديث عن ضربة عسكرية للقدرات النووية الإيرانية. المؤكد أن مثل هذه الحالة ليست ما تريد إدارة الرئيس بايدن الوصول إليه