توقيت القاهرة المحلي 16:35:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

نصف الكأس الآخر!

  مصر اليوم -

نصف الكأس الآخر

بقلم - عبد المنعم سعيد

الصورة الشائعة عن الشرق الأوسط في العالم سلبية للغاية، فهي منطقة للتطرف والعنف وامتهان المرأة وغياب الحريات العامة، وعامرة بالصراعات الإقليمية والحروب الأهلية، هي باختصار مصدر مستمر للصداع الدولي، ومجال لنفوذ القوى الدولية غير الديمقراطية، مثل الصين وروسيا. وكثيراً ما كان مفهوم «الشرق الأوسط» مختلطاً بالعالم «الإسلامي»، وأكثر من ذلك المنطقة «العربية» عندما يراد التخصيص لأشكال مختلفة من التخلف والعجز في التعامل مع العالم والعصر. وفي كثير من الأدب السياسي الشائع فإنها منطقة، أو مناطق، ذات طبيعة استثنائية خارج التاريخ والعلم والزمن. الطريف أن الإعلام الغربي، والجامعات الأكاديمية الغربية، والساسة الغربيين في العموم، ومؤسساتهم العلمية والاقتصادية، كثيراً ما تطالب أهل منطقتنا بالإصلاح والتعلم من تجارب الدول التي تسبقنا؛ لكن حال حدوث ذلك فإنهم سرعان ما يضعون أياديهم على قلوبهم لاعتبار ذلك نوعاً من الحماقة التي سوف تؤدي إلى انفجار الأوضاع؛ نظراً لوجود المعارضة الكامنة لكل ما يغير الأوضاع القائمة التي تخدمها مصالح وعادات وتقاليد لا يمكن التعامل معها من منطلقات «غربية»! باختصار، وكما يقال في الغرب، إن أهل الشرق الأوسط ملعونون إذا قاموا بالإصلاح، وملعونون إذا لم يفعلوا؛ وما زاد الطين بلة أن «الربيع العربي» المزعوم نتج منه من المذابح والحروب الأهلية والصراعات الإقليمية والتدخلات الدولية والعصابات الإرهابية والانتكاسات السياسية ما يدعم وجهات النظر هذه.
العيب الرئيسي في كل ما يقال عنا هو أنه يجعلنا خارج العلم وخارج التاريخ، فالعيوب والسلبيات المذكورة تصير نوعاً من العيوب الخلقية التي تصيب بعض جينات البشر فيكونون على هذا النحو أو ذاك. لكن الواقع ليس كذلك رغم التسليم بأن السنوات القليلة الماضية، وتحديداً منذ مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، فإن المنطقة كلها اهتزت بشدة، وجرى لها ما جرى من مشاهد مفزعة ظهرت في منظمات إرهابية ومتطرفين ومشاهد القتلى والجرحى والمدن المدمرة. فالأخبار الطيبة أن الأسوأ في الأوقات صار وراءنا الآن، وهناك من المشاهد ما يبشر أن المنطقة العربية في سبيلها إلى التعافي، وعندما يحدث ذلك فإن الشرق الأوسط كله يصبح في طريقه إلى التغيير. فلعله يصير من قبيل التعميم المخل للواقع البائس تجاهل أنه في الوقت الذي سقط فيه عدد من الدول العربية في هوة الفوضى والتطرف والإرهاب والحرب الأهلية، فإن عدداً كبيراً من الدول صمدت في وجه العاصفة، وبخاصة دول الخليج العربية، وظل «الربيع» بعيداً عنها. في دول عربية أخرى زارها ذات «الربيع» مثل الأردن والمغرب والجزائر، لكنها نجحت في التعامل معه، وخرجت الدولة منه مرفوعة الرأس وأكثر منعة. وفي مصر، فإن نتيجة «الربيع» المرعبة متمثلة في تولي الإخوان الحكم انتهت إلى سقوط حكمهم خلال عام واحد من توليهم، وهو ما لم يحدث في دول أخرى أصيبت بوباء الفاشية المذهبية أو الدينية، واستمرت لعقود طويلة تحكم في ألمانيا وإيران. وفي العراق، دارت المعركة الكبرى وسقطت الموصل وأجزاء كبيرة من الأرض لدولة الخلافة المزعومة، لكنها هذه هزمت، وانكسرت، ولم تتحرر الموصل وحدها، وإنما تحررت الدولة العراقية كلها، ونجحت في وقف عملية الانفصال الكردي دون كسر اللحمة بين العرب والأكراد.
بالطبع، لا تزال الأوضاع سيئة في سوريا وليبيا واليمن، لكن في هذه كلها فإن الإرهاب لم ينجح، وفشلت إيران في اليمن، حيث حرر التحالف العربي أجزاء واسعة من البلاد من سيطرة الحوثيين. لكن ما لا يقل أهمية عن كل ذلك، فهو أن هناك موجتين كبيرتين من التغيرات الجوهرية الجارية في المنطقة والتي لا يمكن تجاهلها حتى ولو كان نصيبها من الاهتمام الدولي لا يزال محدوداً. الموجة الأولى تدور حول «الإصلاح» بمفهوميه الاجتماعي والاقتصادي، حيث تقوم المصالحة التاريخية بين المذاهب والطوائف؛ وتجري عملية الإصلاح الاقتصادية وفق المعايير والقواعد العالمية، وتكون محاربة الفساد جزءاً رئيسياً من العملية كلها. وباستثناء قطر التي لا تزال تظن أن النوم في حضن الإرهاب الديني وكلٍ من إيران وتركيا سوف يعطيها المنعة ويعفيها من الإصلاح؛ فإن بقية دول مجلس التعاون الخمس تعيش الآن في عملية إصلاح عميقة لم يكن أحد يتصورها خلال العقود السابقة. درة التاج في هذه العملية كلها، وربما أكثرها جرأة، هي عملية الإصلاح الجارية في السعودية التي مست أوضاعاً لم يكن يظن أحد أنه يمكن المساس بها تتعلق بالمرأة والمذاهب والأوضاع الاقتصادية كلها. باختصار جرى استعادة الإسلام إلى أصوله الأولى الرحبة والمتسامحة. ومصر هي الأخرى التي عصف بها الربيع المزعوم، وفقدت ثلاث سنوات من عمر تقدمها، عادت مرة أخرى لكي تستقيم في خريطة للطريق، ومن بعدها عملية إصلاح عميقة تواجه المشكلات والعقبات بحلول جذرية لا تغالب ولا تكابر ما ذهبت إليه الأمم المتقدمة. وفي العام المالي الحالي 2017 – 2018، فإن مصر تجاوزت معدل النمو 5 في المائة، ورغم زيادة سكانية قدرها 11 مليون نسمة (قدر عدد سكان اليونان) منذ بداية العقد، وبرنامج صعب للإصلاح الاقتصادي يتابعه صندوق النقد الدولي، فإن كافة المؤشرات الاقتصادية الكلية تشير إلى أن مصر تسير في الطريق الصحيحة.
بقية الدول العربية الأخرى قطعت خطوات مماثلة، وعرفت كيف تتعامل مع مشكلات التطرف والإرهاب، وبشكل ما فإن الدول العربية أقامت معادلة مؤداها أن تسير في التنمية كما لو أنه لا يوجد إرهاب، وتحارب الإرهابيين كما لو أنها لا تقوم بالتنمية. وربما كان الجديد في الموجة الثانية من الإصلاح هو خلق الفرص التي بدأت في الظهور في أعقاب عمليات ترسيم الحدود البحرية التي أجرتها مصر والسعودية، ومصر مع قبرص، وكلتاهما فتحت أبواباً واسعة للتنمية الإقليمية فبات البحر الأحمر وشرق البحر المتوسط مفتوحين لعمليات التنمية المشتركة، سواء كان من خلال بناء المدن العابرة للحدود والخلجان (مدينة نيوم)، أو من خلال الربط الكهربائي الذي يجري بين مصر والسعودية، ومصر والأردن، ومعهما عمليات الربط بين أفريقيا وأوروبا من خلال مصر وقبرص واليونان. عمليات الإصلاح هذه سمحت بإعادة اكتشاف كل بلد عربي لنفسه، وقدراته البشرية والمادية، وكانت المفاجأة أن العالم العربي ليس نفطاً وغازاً فقط، وإنما الثروة فيه متعددة الأنواع والقدرات والطاقات. عمليات الإصلاح الجارية في دول عربية كثيرة في مجموعها تجعل عناصر القوة في الإقليم العربي أكثر فاعلية، وأعظم قدرة على التأثير، وبخاصة أن المجموعة الرباعية المكونة من مصر والسعودية ودولة الإمارات والبحرين ومعهم الأردن والمغرب تكوّن تآلفاً سياسياً وعسكرياً يجعل الشرق الأوسط أكثر توازناً مما كان عليه منذ بداية العقد الراهن.
ليس معنى ذلك أن كل الأمور على ما يرام، فمسيرة الإصلاح لا تزال طويلة، لكنها مبشّرة، ومع كل تقدم يحدث في دولة عربية فإن العالم العربي سوف يكون قادراً على إدهاش الآخرين مهما كانت صورته لديهم.

نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نصف الكأس الآخر نصف الكأس الآخر



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد

GMT 16:48 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

المقاصة يسعى لاستعادة الانتصارات أمام الانتاج

GMT 14:39 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

"ثقافة أبوقرقاص" تنظم فعاليات في قرية الكرم وقصر الإبداع

GMT 01:22 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

العسيلي والليثي يطرحان أغنيتهما الجديدة "خاينة"

GMT 19:11 2015 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مركز "محمود مختار" يستضيف معرض الفنان وليد ياسين

GMT 03:33 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

دار VIDA للمجوهرات تطرح مجموعة جديدة لامرأة الأحلام
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon