يوجد فى مصر الآن ثلاث قصص تحكى عن أحوالها من زوايا مختلفة، وتعيش فيما بينها فى تنافس وصراع، ولكل منها دفاعها وهجومها، وفى اللحظة الراهنة فإن كلا منها قانطة من الأخرى، وعناوينها على النحو التالى: التنموية، والأمنية، والدينية.
قصة مصر التنموية الأساسية هى مأساة التخلف المصرى، وتراجع المكانة المصرية بين الأمم، والخوف الشديد من المثالب العظمى للزيادة السكانية وما يحتاجه مليونان من المصريين كل عام من علم وتعليم وعمل، والتراجع الشديد فى نوعية البشر المصريين لأسباب الفقر والجهل والمرض، والتهديدات والتحديات الخارجية لبلد تم احتلاله لثلاثة آلاف عام من أجناس كثيرة، كان آخرها الإنجليز والإسرائيليون.
ومصر فى الأول والآخر ليست حقيقة واحدة فى التعرض لكل هذه المثالب، فجنوبها أكثر فقرا وتخلفا من شمالها، وفى آخر أرقام مؤسسة «بصيرة» نسبة المصريين تحت خط الفقر تزيد على ٥٠٪ من إجمالى السكان فى أربع محافظات، هى المنيا (٥٧٪) وقنا (٥٨٪) وسوهاج (٦٦٪) وأسيوط (٦٦٪). قارن ذلك بالمتوسط العام للفقر فى مصر (٢٨٪) تجد المسافة شاسعة بين مناطق وأخرى.
القصة التنموية لا تجد فى كل ما سبق قدرا محتوما، وإنما هو تحدٍ ينبغى، ويمكن مواجهته، بالسير فى الطرق التى سبقتنا إليها أمم أخرى، وقوامها العمل الشاق، والقبول بالقرارات الاقتصادية الصعبة التى لم تتوانَ دول أخرى عن اتخاذها لإصلاح اقتصادها، والاستثمارات الضخمة، والمشروعات العملاقة، وامتداد الدولة سكانيا وإنتاجيا من النهر إلى البحر، وامتداد حدود الدولة إلى مناطقها الاقتصادية البحرية، والتنمية الخاصة للصعيد وسيناء والساحل الشمالى.
كل ذلك تجرى ترجمته فى معدل نمو سنوى يصل إلى أكثر من ٨٪ خلال فترة زمنية قصيرة سقفها الحالى عام ٢٠٣٠، وكل ذلك يحقق تراكما رأسماليا يسمح بنهضة كبرى فى مجالات التعليم والصحة والحماية الاجتماعية للفئات الأقل حظا.
الشواهد الراهنة كلها تقول إن مصر تسير فى هذا الطريق، خاصة خلال السنوات الأربع الماضية وبشكل تدريجى بطىء نسبيا ومغالب للزيادة السكانية، ورغم محاربة الإرهاب فى نفس الوقت، حيث ارتفع معدل النمو من أقل من ٢٪ عام ٢٠١٣ إلى ٨،٤٪ فى العام المالى ٢٠١٦/٢٠١٧، وارتفع خلال الربع الأول من العام المالى الحالى ٢٠١٧ /٢٠١٨ إلى ٢،٥٪، وخلال الربع الثانى إلى ٣،٥٪.
وارتفع الاحتياطى النقدى للبلاد من أقل من ١٥ مليار دولار إلى أكثر من ٣٨ مليار دولار، وتراجعت البطالة بين العاملين من قرابة ١٤٪ إلى ١١،3٪.
وبينما توجد مخططات خاصة للصعيد وسيناء والساحل الشمالى، فضلا عما هو جارٍ فى القاهرة والدلتا من مشروعات ومدن، فإن تخطيط الحدود البحرية لمصر قد ولد أولى نتائجه ليس فقط فى اكتشاف حقل «ظهر» وتحقيق الاكتفاء الذاتى من الغاز قبل نهاية هذا العام، وإنما فى تحول مصر إلى مركز إقليمى للطاقة بالاتفاق الذى جرى بين شركات مصر وأخرى إسرائيلية من أجل مرور الغاز الإسرائيلى من مصر، سواء كان ذلك للإسالة أو التصنيع أو الاستخدام فى المناطق التى يمر بها شبكة أنابيب الغاز المصرية، وفى قائمة الانتظار القريب توجد اتفاقات أخرى مع قبرص.
قصة مصر التنموية واعدة بشدة، خاصة أنها تحدث فى ظل المواجهة مع الإرهاب والصراعات الإقليمية الجارية التى استلزمت زيادة الإنفاق العسكرى، وربما كما لم يحدث منذ وقت طويل. فكل ما جرى خلال السنوات الأربعة الماضية لم يكن فى جوهره إلا لإعداد العدة لانطلاقة كبرى فى المستقبل. فالتنمية الاقتصادية تعزز من السوق المصرية التى باتت هدفا للاستثمارات الدولية، فضلا عن استغلال القدرات المصرية لخدمة مصادر الطاقة، سواء تلك الموجودة فى السعودية والخليج أو منطقة شرق البحر المتوسط.
كل ذلك يعطى لمصر قدرات جبارة للدخول فى عمليات التصنيع الشاملة التى تبدأ من الطاقات الموجودة بالفعل لصناعات الحديد والصلب والأسمدة والأسمنت ومواد البناء والبتروكيماويات والألومنيوم والغزل والنسيج وغيرها من الصناعات كثيفة العمالة وكثيفة الاستخدام للطاقة. بداية هذه الانطلاقة بدأت فى تحفيز البحث واستخراج المعادن والطاقة من مناطق جديدة لم يكتشفها أحد من قبل، ليس فقط فى البحر المتوسط، وإنما فى البحر الأحمر أيضا، وبدء عملية التطوير فى النظام التعليمى والصحى المصرى.
قصة مصر «التنموية» يقابلها قصة مصر «الأمنية» التى فى العادة تتجاهل ما يجرى بالفعل على أرض مصر أو تقلل من أهميتها وتراها تعبيرا عن أولويات لا تحتاجها البلاد أو أنها أكثر من ذلك تعكس السيطرة «الأمنية» على أقداد الأمة.
وفى مقال أخير للسفير الدكتور عزالدين شكرى، نُشر فى هذا المكان، جرت الدعوة إلى التسليم بوجهة النظر هذه، ومن ثم وجبت العودة إلى دستور ١٩٧١، حيث كان الاستفتاء هو وسيلة اختيار رئيس الجمهورية. حجر الزاوية فى القصة الأمنية السائدة فى الدوائر الليبرالية داخل مصر وخارجها أن «الدولة العميقة» للأجهزة الأمنية فى مصر قد استعادت دولتها الخاصة مرة أخرى، على عكس ما جرى تصوره من توجهات ليبرالية وديمقراطية جرت نسبتها إلى ثورة يناير المغدورة باسم الدين أو الأمن.
فى هذه القصة فإن مصر فى الأصل لا تخضع لتهديدات تذكر، وإذا كانت موجودة فإنها تأتى نتيجة توجهات وتجاوزات «النظام» أو «السلطة»، وفى كثير من المقالات المعبرة عن هذه الرواية فإن كلمة «الإرهاب» نادرا ما تذكر كما لو أن التجاهل سوف ينهى وجوده ليس فقط فى مصر، وإنما أيضا فى الإقليم والعالم أيضا.
القصة الأمنية ترى الحالة المثالية لمصر فى الأيام الثلاثة الأولى من ثورة يناير قبل أن تصير أيامها غضبا، حيث كانت ألوان علم مصر، وألوان أعلام أخرى تعطى صورة رومانسية لشباب غض وبرىء ولديه رغبات طاغية فى الحرية والإبداع والسير فى سير العالم المتحضر. فى هذه القصة لا يوجد مكان للشيخ يوسف القرضاوى يوم جمعة الانتصار، ولا للمجموعة ٩٥ الإخوانية تنظم الجماهير فى ميدان التحرير، كما أنه لا توجد صورة لمصر المستقبل. هى حالة لا تجعل صورة ميدان التحرير استثنائية، وإنما هى حالة مستمرة لا يتوقف فيها الشباب لا عن التظاهر ولا عن رفع الشعارات النبيلة.
القصة الدينية ذائعة بشدة فى محطات الإخوان التليفزيونية، وهى تشارك القصة الأمنية فى نفيها للأمن و«العسكر»، ولكن مستقبلها يقع فى القصة الإيرانية التى كان الإخوان يريدون أخذ مصر إليها. هى قصة «ثأرية» ظن فيها الإخوان أنهم أمسكوا بتلابيب الجائزة الكبرى فى مصر، وأنهم من هول السقوط لا يصدقون إلا أن الشعب المصرى سوف يعود إلى أحضانهم مرة أخرى، حيث توجد مفاتيح الجنة والنار. القصة هنا جزء من معركة سياسية وعسكرية كبيرة، وأدواتها القصص بمقدار أدواتها من السلاح والقتل والإجهاض. ورغم الاستعارات المستمرة من القصة الأمنية لضرورة لباس ليبرالية تنفع فى الدوائر الغربية، فإن هناك قدرا غير قليل من السخرية منها، ربما بسبب قلة عدد المنتمين، أو لأن التناقض عميق بين الليبرالية والفاشية.
القصص الثلاثة مطروحة على الانتخابات الرئاسية القادمة، ورغم أن الحوار بشأنها سيكون مفيدا لجميع الأطراف قياسا للأحجام لو أن الطريق إليها كان أكثر تمهيدا وسلاسة، فإن المشاركة سوف تكون تصويتا على ما يجرى من ناحية، وإعدادا من ناحية أخرى لما سوف يأتى فى انتخابات ٢٠٢٢. ففى كل الأحوال فإن القصص الثلاثة سوف تظل معنا ولكن بأثقال مختلفة.
ومن يدرى؟! ربما يكون القادمون من رحم الوطن أكثر قدرة على حكْىِ قصة دخول مصر فى العصر الذى نعيش فيه.
نقلا عن المصري اليوم القاهريه