بقلم : عبد المنعم سعيد
العيد المئوى بالجامعة الأمريكية لا يجرى الاحتفال به بطريقة تقليدية، وإنما تسير فى طريق ما خلقت الجامعة من أجله، وهو المساهمة فى بناء المعرفة فى المنطقة التى جاءت إليها. ولا توجد مساهمة ذات قيمة بقدر التعرف على مستقبل العالم العربى، من ثم كان المشروع البحثى المقدر له الاستمرار خلال السنوات الثلاث القادمة لكى يستطلع الاتجاهات التى تذهب إليها المنطقة، والبحث عما إذا كان ممكنا إنقاذها مما وصلت إليه. فلم يكن سرا على أحد أن المشروع يبدأ فى وقت جرى فيه استئناف ما كان معروفا فى مطلع العقد بالربيع العربى، ولم يكن معروفا بعد ما إذا كانت الموجة الجديدة من الثورات الجماهيرية فى السودان والجزائر، وانفجار العنف فى ليبيا، هو امتداد لما كان أو أنه ثورة على الثورات التى حدثت أو أنه أمر جديد كلية. وربما لم تكن هناك صدفة بالضرورة أنه يوم بدء اجتماع إطلاق المشروع أن مقالات نشرت فى صحف كثيرة دار محورها إما على أن رياح الربيع الجديدة تعلمت مما سبق، ومن ثم فإنه ربما يكون لديها الفرصة لكى تحقق ما عجز الأولون عن إنجازه؛ أو أنه فى الحقيقة أن الثوار الجدد لم يتعلموا بعد، والأرجح أنه مكتوب عليهم كما هو شائع بين العرب أنهم لا يتعلمون أبدا. بالطبع لم يكن أحد على يقين مما سوف يحدث، والمشروع على أى الحال هو فى استشراف ما سوف يحدث، وفى مثل هذه الحالة فإن السؤال هو من أين نبدأ، وإلى متى سوف نستشرف، وأين؟
الجماعة البحثية التى جاءت من مصر والولايات المتحدة وأوروبا، مثلت كلها تجمعا عربيا فريدا من الباحثين العرب، كانت فيه خلطة لا بأس بها من القدرات المشهود لها بالكفاءة البحثية، والتاريخ المقدر فى النشر؛ وكما هى العادة فى هذه المجتمعات فإنه جرى تقسيمها إلى مجموعتين: الأولى تخصصت فى الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية؛ والثانية فى الأمن الإقليمى والصراعات الإقليمية. ولما كان الجميع يعلم أن مثل هذا الفصل تعسفى، وأن الواقع يشهد باختلاطهما، فقد كان هناك جلستان عامتان يختلط فيهما الباحثون ويتبادلون خلاصات ما استقروا عليه. وجاء نصيبى فى المجموعة الثانية التى كان عليها تحديد الزمان والمكان الذى عندهما يتقاطع التاريخ ويسير، ومتطلبات ذلك تقديم نقطة تاريخية يبدأ منها البحث، ومن الطبيعى أن كل نقطة تاريخية لابد وأن تسبقها وتؤدى إليها نقطة سابقة عليها، وكانت هناك العديد من التوجهات حول أيا من نقاط التاريخ المعاصر التى انقلبت عندها المنطقة رأسا على عقب، وكان ما عرضته أن نقطة البداية فى النظام الإقليمى الشرقى أوسطى المعاصر كانت نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية والخروج من رحمها بالدول العربية التى نعرفها الآن، وحتى إسرائيل فقد بدأت مع الحركة الصهيونية التى حصلت على وعد بلفور، ومنه كانت إسرائيل. ولما كان معنى ذلك دراسة قرن من الزمان تقريبا، فإن نقاط تحول متعددة جرى طرحها للتناسب مع قدرات الدراسة من أول قيام دولة إسرائيل، إلى حرب أكتوبر ١٩٧٣ بشقيها العسكرى والنفطى، إلى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، إلى الغزو العراقى للكويت، إلى الغزو الأمريكى للعراق. كانت لكل هذه النقاط التاريخية ما لها، وعليها ما عليها، حتى كان الاقتراح أن تكون نقطة البداية هى عام ٢٠١٠ حيث بات هذا العقد ليس فقط ممثلا للماضى، وإنما الحاضر أيضا الذى نعيشه. نقطة النهاية كانت أكثر سهولة وإغراء، وهى العام ٢٠٣٠ لأن هذا العام من ناحية هو الذى عنده تنتهى الكثير من خطط الإصلاح الجارية (خطة الكويت ممتدة حتى عام ٢٠٣٥)، ولكن لأن ذلك يمثل المستقبل القريب، والناصية القريبة من الدار، والممكنة للبشر من أمثالنا أن يتعرفوا عليها. الزمن هكذا بات عشرين عاما، أما المكان فقد اختلطت الأسماء بين الأمة العربية والوطن العربى والعالم العربى، وكان لكل مفهوم تعريف وتقديم، وللتبسيط صار الأمر تلك الدول الناطقة باللغة العربية وأعضاء فى جامعة الدول العربية، ومنها ننطلق إلى الإطار القريب والمتداخل مع الإقليم العربى فى الشرق الأوسط.
لم تكن هذه هى المرة الأولى التى أشترك فيها فى دراسة مستقبلية فقد كانت هناك دراستان قبلها، الأولى بدأت فى منتصف الثمانينيات من القرن الماضى تحت عنوان استشراف مستقبل الوطن العربى، وقام بها «مركز دراسات الوحدة العربية» وعمل بها عدد كبير من الباحثين العربى؛ وكان السؤال الأساسى الذى قامت عليه هو كيف سيكون حال العرب أولا إذا استمر الوضع الحالى؛ وثانيا إذا ما كان هناك تعاون كبير بين الدول العربية؛ وثالثا إذا ما قامت وحدة فيدرالية بين هذه الدول. كان المشروع طموحا، وربما كان رد فعل لحالة العرب أيامها، ولكنه تم إنجازه وعرض نتائجه فى مؤتمر عقد فى تونس التى كانت مقرا للجامعة العربية وقتها، وكان نصيبى من المشروع كتابين أولهما «العرب ومستقبل النظام العالمى» والثانى «العرب ودول الجوار الجغرافى: إيران وتركيا وإثيوبيا». المحاولة الثانية لاستشراف مستقبل المنطقة جرت فى واشنطن تحت رعاية مؤسسة «مجلس الأطلنطى» وبقيادة مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية فى عهد كلينتون، وستيفن هادلى مستشار الأمن القومى فى إدارة جورج بوش الابن؛ وكما هى العادة كنت فى مجموعة الأمن الإقليمى والصراعات الإقليمية التى كانت تنعقد فى مؤسسة بروكينجز، وقام عملها على مفهومين: أولهما أن ما كان يجرى فى المنطقة فى ذلك الوقت هو نتاج هشاشة الدولة العربية وضعف مؤسساتها مما قاد إلى الحروب الأهلية؛ والثانى هو أن الدولة لم تعد فاعلة فى المنطقة، وإنما الفاعلون من غير الدول؛ أو كان هذا هو التقرير الذى أعده «كينيث بولاك» بناء على رأى الأغلبية، فما كان إلا أن أعددت تقريرا مضادا أو «تقرير الأقلية» التى كانت فى ذلك الوقت مكونة من شخص واحد.
الآن نحن أمام مشروع جديد، وفى الجامعة الأمريكية فى القاهرة، بعدما جرت مياه كثيرة تحت الجسور، وما قبله عشر سنوات، ومثلها بعده، والأسئلة التى عليه أن يجيب عليها هى: كيف يمكن استعادة الدولة الوطنية مرة أخرى؛ وكيف يمكن استعادة الأمن الإقليمى بكل أشكال التهديد التى تعتريه؛ وكيف نستعيد الدين الإسلامى إلى جوهره الحضارى؟ جوهر الأسئلة هو الاستعادة أو Restoration وهو مفهوم برز فى أوروبا بعد الثورة الفرنسية ويحتاج إلى ائتلاف مع القرن الواحد والعشرين. هذا كان ما طرحته على أى حال، وهناك اعتقاد من المجموعة الباحثة أنه ربما تفضى نتائج استشراف المستقبل إلى ما يفيد وينفع.